في مقال سابق بعنوان  “الكتاب وما ينبغي له ” ، تحدثت عن ضرورة وَصْلِ ما انقطع بيننا وبين الكتاب؛ باعتبار الكتاب طريقًا للوعي والحضارة.. وخلصت إلى أن الكتاب ينبغي أن يكون ذا أولوية في حياتنا؛ إن كنا راغبين بجدٍّ في الخروج من أزماتنا الراهنة..!

وفي هذا المقال نتناول بعضًا من شروط القراءة الفاعلة، التي ترتقي بالوعي، وتشكِّل فكرًا فاعلاً متوازنًا، وتكوِّن عقلاً نقديًّا يمكنه مراجعةُ ما يتلقاه، والبناءُ عليه بإبداع وتجديد..

ومن أهم شروط القراءة الفاعلة:

1- أن تكون القراءة باسم الله : المسلم يبتدئ كل أعماله باسم الله؛ أي يتجه بعمله لله تعالى، مخلصًا النية له وقاصدًا منه المثوبة والتوفيق.

ومعنى أن تكون القراءة باسم الله أي أن تكون على منهج الله؛ فهي قراءة تبتغي مرضاة الله، لا شهرة ولا سمعة؛ وقراءة تدرك أن العلم منحة من الله العليم الذي أحاط بكل شيء علمًا؛ وقراءة تعي أن النقل الصحيح لا يناقض العقل الصريح، وأن لكل من النقل والعقل مجالاته وضوابطه.

بهذا تنضبط القراءة على منهج الله؛ منطلقًا وغاية، مبتدأً ومنتهى.. فهي ليست قراءة العقل المنفلت من نور الوحي، العابث بمسلَّمات الشرع وبديهيات الفكر المستقيم.

إن الضوابط والمحددات التي يضعها الإسلام للعقل، لا تعني أبدًا فرضَ القيود عليه، ولا كفَّه عن الإبداع؛ إنما تعني توجيهه الوجهة الصحيحة، والحفاظ على طاقته من الهدر والعبث.

وحين انطلق المسلمون يجوبون البلاد شرقًا وغربًا، باسم الله وعلى هدي من الله، لم يمنعهم ذلك من تأسيس حضارة غير مسبوقة في التاريخ البشري، ولم يكن الدين مانعًا لهم من الإبداع في مختلف المجالات، النظرية والعملية. بل الصحيح، أن العرب لم يكن لهم نصيب من التمدن والحضارة قبل أن يهتدوا بنور الوحي، وكانت حياتهم من البساطة والسذاجة ما جعلهم على الهامش بالنسبة لحضارتي الفرس والروم.

2- أن تجمع القراءة بين التخصص والمعرفة العام : القراءة التي تشكل وعيًا صحيحًا هي ما تجمع بين التعمق في مجال التخصص، والإلمام بالمعرفة العامة في المجالات الأخرى؛ ذلك أن البعض يحصر نفسه في إطار تخصصه، فلا يعرف شيئا عما سواه؛ مما يجعل نظرته للأمور ضيقة، وحكمه على الأشياء غير دقيق.

لقد صارت مجالات العلوم والمعرفة أكثر تشابكًا وتعقيدًا؛ وهذا يجعل من (الاجتهاد الجماعي)- الذي يجمع عقولاً في تخصصات شتى- ضرورةً ملحة؛ كما يجعل من اهتمام المرء بالمجالات الأخرى خارج تخصصه أمرًا مهمًّا.

ولنا في علمائنا السابقين النموذج والأسوة؛ فقد كان ابن رشد فقيهًا وقاضيًا وطبيبًا وفيلسوفًا وله اهتمام بالفلك. ومن قبل كان الإمام الطبري مفسرًا وفقيهًا ومؤرخًا ولغويًّا وعالمًا بالقراءات. ومؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية تشهد على سعة علمه، ومجالات العلوم المتعددة التي ضرب فيها بسهم وافر.

3 -القراءة في الكليات والمتفق عليه قبل الفروع والمختلف فيه : لكل علم من العلوم كلياته الأساسية، ومبادئه العامة، ومسائله المتفق عليها، ولو بشكل كبير دون إجماع.

ومن المهم عند القراءة، أن يبدأ المرء بهذه الكليات والمبادئ والمسائل؛ قبل أن تتشعب به الطرق، وتكثر عليه الفروع، وتشتبه في ذهنه المعاني. بذلك يستطيع أن تتكون لديه قراءة منضبطة متماسكة بالمجال الذي يقرأ فيه؛ فمسائل العلم الواحد أكثر من أن تحصى، وإذا انشغل القارئ بها- قبل أن يلم بما يعطيه خريطة عامة، وأصولاً واضحة- فإنه لا يحسن ردَّ الجزئيات إلى الكليات، ولا الفروع إلى الأصول؛ وقد يحسن بابًا ويجهل بابًا أكثر منه أهمية.

4 – القراءة في الشرعيات قبل العقليات: القراءة في العقليات- أي ما يتصل بالفكر والفلسفة والمذاهب والتيارات- تستهوي الشباب؛ لأنهم يجدون في أنفسهم طاقة موّارة تدفعهم للتفكر والتساؤل، ويريدون أن يشبعوها ويروا ظمأهم.

وهذا منزلق خطير، أن يهتم الشباب بالعقليات قبل أن يأخذوا قدرًا من العلوم الشرعية، ولو بالحد الأدنى؛ بحيث يتثبت الشاب من عقيدته، ومن توجيهات الإسلام في العلم والمعرفة، ويفهم طبيعة عمل العقل وحدوده ومجالاته، ومدى اقتراب ذلك وتداخله مع العلوم الشرعية التي مصدرها الوحي والتلقي.

بل نجد للأسف بعض الشباب يهتم بالقراءة في الأديان والمذاهب الوضعية قبل أن يقرأ في الإسلام؛ فتثور في نفسه الشكوك، وتتمكن منه الشبهات.. وقد لا يجد هذا الشاب في بيئته الصغيرة من يجيب على أسئلته، فيدفعه ذلك لازدراء أحكام الإسلام، والاستهانة بها، وربما تطور موقفه لأشد من ذلك!

5- القراءة للمعاصرين قبل الأقدمين : من المهم خاصة للشباب، أو لغير المتخصصين في علوم الشريعة، أن يقرأوا أولاً للمعاصرين، قبل أن يغوصوا في كتب الأقدمين؛ فكتب المعاصرين أسهل في التناول، وأبعد عن الإلغاز، ولا تتداخل فيها العلوم بما يجعلها صعبة الفهم.

فيكون من المناسب أن تكون القراءة مع كتب المعاصرين أولاً؛ لسهولة لغتهم وقربها من الاستخدام الراهن. فإذا تم استيعابها على نحو جيد، كانت مدخلاً ميسرًا لكتب الأقدمين؛ التي هي بلاشك أكثر امتلاءً، وأجزل عبارة، وأحكم صنعة.

6 – القراءة للثقات قبل أصحاب الجدل : هناك شخصيات محل تقدير من الكثيرين، ومشهود لهم بالإسهام الجيد في مجالهم، وبالتوازن والاعتدال في أطروحاتهم.. هؤلاء تُقدَّم أعمالهم في القراءة قبل أعمال من عُرفت عنهم المشاغبة وإثارة الجدل؛ حتى لا يكون ذلك سببًا في بلبلة العقل قبل أن يتمكن من تكوين معيار للفهم والمناقشة.

ولا أقول إن كل ما يثير جدلاً خطأٌ؛ لكن علينا أن نراعي الترتيبَ في المعرفة، والتدرجَ من الكليات والثوابت والواضحات إلى ما يليها.

7 – التأمل في القراءة ومناقشة الكاتب : القراءة الجيدة هي التي لا يسلِّم صاحبها بكل ما يقرأ؛ بل يقف منه موقف الناقد البصير، والباحث الجيد الذي ينشد الحق، ولا ينجرف لهوى أو يسلم زمام عقله للآخرين.

وهذا يتطلب قطعَ شوط معين في العلم والمعرفة؛ حتى تتكون لدى القارئ رؤية يستطيع بها أن يناقش ويخالف ويجادل بالحجة والبرهان.

أما أن يضع القارئ نفسه في موضع المتلقِّي والمستقبِل فحسب، دون أن يقيم حوارًا مع الكاتب وكتابه، ودون أن يعرض ما يقرؤه على ما استقر عنده من قبل، موافقةً أو مخالفةً؛ فهذا مما يطمس شخصية القارئ أمام شخصيات الآخرين، ويحرمه من تكوين ذاته الفكرية المستقلة القادرة على الإبداع.

8- القراءة للعمل لا الجدل : إن العمل هو الثمرة المرجوة من العلم؛ فعلم بلا عمل كشجرة بلا ثمر؛ وكما قال ابن القيم: “لو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله سبحانه أحبار أهل الكتاب، ولو نفع العمل بلا إخلاص لما ذم المنافقين” (الفوائد، ص: 31،).

فالقراءة المثمرة هي ما تدفع للعمل، وتهذب السلوك، وتترك بصماتها على حياة الإنسان؛ عطاءً ونفعًا للآخرين.

وقد جعل العقاد مقياس الكتاب النافع مرتبطًا بما يتركه في نفس قارئه من فهم أفضل، ومن دافعية للعمل؛ فقال: “أما مقياس الكتاب المفيد، فإنك تتبينه من كل ما يزيد معرفتك وقوتك على الإدراك، والعمل، وتذوق الحياة؛ فإذا وجدت ذلك في كتاب ما، كان جديرًا بالعناية والتقدير؛ فإننا لا نعرف إلا لنعمل أو لنشعر؛ أما المعرفة التي لا عمل وراءها ولا شعور فيها، فخير منها عدمها. وعلى هذا المقياس تستطيع أن تفرق بين ما يصلح للثقافة والتهذيب وما لا يصلح” (انظر مقاله: “لماذا أهوى القراءة”، مجلة “الهلال” عدد مارس 1948م).

تلك هي أهم الشروط والمعالم التي تتطلبها القراءة المثمرة، الواعية، الفاحصة، المضيئة، الفاعلة..