أُنيط بهذه الأمة المخرجة أن تكون دليل ضياء، ومنار سبيل للعالمين كلهم، فهي الأمة الخاتمة والمختارة بما استحقت من شرف القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بالشهادة على الناس، كما قال تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [ آل عمران، 110]،  فالخيرية مشروطة بالوفاء بشروط الاحتساب والإيمان، والقيام بوظيفة التذكير والدعوة إلى هدايات السماء.

وهو ما عضدته السنة النبوية التي جاءت موارة بعديد الأحاديث والمواقف الحاضّة على القيام بواجب الأمر والنهي، وأن ذلك صِمام أمان للجماعة من الفوات والموات ونزول الآفات.

ففي حديث حذيفة عن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال:” والذي نفسي بيدي لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقابـًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم” (الترمذي، 2169) ، بل إنه صلى الله عليه وسلم مارس الأمر بيده ولسانه، فقد مرّ على صبرة طعام، فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام ؟ ، قال : أصابته السماء يا رسول الله، قال: “أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي” ( مسلم، 164).

وعلى سنته سار الخلفاء الراشدون، فقد كان عمر الفاروق يقوم بوظيفة المحتسب، ويمرُّ بالسوق ومعه الدِّرَّة فيزجر بها الغشاشين، واستعمل الشفاء العدوية محتسبة لما في ذلك من إمضاء للأحكام والآداب في الأسواق التي تلجها النساء للبيع والشراء وقضاء الحوائج.

ولأجل مركزية الاحتساب ورفع أعلام الحق ونصب صُوى الهداية توالت المؤلفات، وأُفردت كتب وأبواب وسماعات في علوم الفقه والعقيدة والشروط والأحكام والآداب الشرعية، والسياسة الحكمية.

بل إن المعتزلة اعتبروه أصلا خامسا من أصولهم في العدل والتوحيد والوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين، بل هو الأصل العملي لها، والتارك له في خطر، فإن مات من غير توبة كان جزاؤه الخلود في النار.

واعتبره أهل السنة من عزائم الشريعة، والتقصير فيه من المعاصي والكبائر، لأن تفويته فوات للجماعة  وإزراء بالدين، قال الغزالي: ” وهو القطب الأعظم في الدين، وهو المهمّ الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طُوي بساطه وأُهمل علمه وعمله لتعطّلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمّت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد” ( إحياء علوم الدين، ج 2 ص 306).

وللعلماء خلاف في حكمه بين قائل بالوجوب الكفائي أو العيني، وأطنب الفقهاء في شروطه وأحكامه، ومن له أهلية الاحتساب لمنع الاختلال وتداخل الصلاحيات بين المتولين للإدارة والقضاء، واتفقوا على عدم الإنكار في مسائل الاجتهاد وما يجوز الاختلاف فيه، وشرطوه بكون المنكر معروفا ظاهرا، متحققا، حالاّ غير مندثر ولا فائت، ولا متأهبا عليه لم يحصل بعد، إذ الأصل براءة المسلم، وأن لا يؤدي إلى منكر أكبر منه،  وتكلموا في صفات المحتسب وأجهزة الرقابة من اشتراط الإسلام، والعلم، والتكليف، والبلوغ، والقدرة، والحكمة والأناة والرفق، وعن درجات الإنكار المختلفة من اليد والإزالة، والتغريم والحبس، والمنع، والمصادرة، فضلا عن الإنكار باللسان والوعظ والتذكير، وأصالةً بالقلب والإنكار الشعوري لكل أشكال المنكر وأصنافه، والمتلبّسين به.

كل هذا التراث العلمي الرائق يمكن الإفادة منه في موضوع فصل السلطات، وبيان الحقوق والواجبات، وهو ما تجسّد في  تجارب التاريخ الإسلامي الرائدة في خطِة الحسبة التي حفظت للأمة دينها وتقاليدها واقتصادها، إذ ظل القضاء آخر القلاع الإسلامية التي قاومت الانحراف،  وعاضده في ذلك التعليم والأوقاف.

إننا بحاجة ماسة إلى إحياء فقه الاحتساب الجماعي، وثقافة الرقابة، وتأجيج الوعي بالأضرار العامة، وتوتير الإحساس بالمصالح المجتمعية، ولا يكون ذلك إلا ببرامج مرافقة لمراحل التعليم، واستثمار ثورة الإعلانات لإنشاء مصدات جماعية بكل ما يمس المصالح الكلية للأمة والدولة، ولا بد أن يتصاحب ذلك مع ضوابط ضامنة كفلتها الشريعة للولوج الهادئ لهذه الميادين، ومن ذلك استصحاب النصيحة الدائبة، وتفعيل مبدأ الستر على المسلمين، ومحاصرة الخطيئة اجتماعيا، والاستنجاد بوسائل الإعلام والبرامج الدعائية الهادفة، والتفرقة بين مراتب الأمر والنهي، واعتماد التقسيم المقاصدي في الاعتبار والإنزال في عدم التهاون بالضروريات والحاجيات، والتنزّل والتسامح في التحسينيات، إضافة إلى التكليف المباشر لأجهزة الحسبة  والرقابة لمباشرة الأمر والنهي من باب وحدة الفتوى، وحق الدولة في احتكار أجهزة الرقابة والردع مما لا يُترك للأفراد الذين قد يسيئون استخدام هذا الحق.

إن الاحتساب يجب أن ينصبّ اليوم على المشكلات الحضارية والمعضلات النهضوية، وهو ما أشارت إليه دراسة “الاحتساب المدني” لمحمد عبد الكريم، ومن بين ما يتوجب إليه الإنكار الآتي:

  • منكرات تقهقر التعليم وشيوع الأمية، والتي هي العلة الرئيسة لكثير من المنكرات الأخلاقية.
  • الدواوين الإدارية، والاحتساب عليها بأجهزة القضاء المباشرة من جهات الاستئناف والتمييز، ونشر ثقافة التقاضي واسترجاع الحقوق بالتحاكم  أو التصالح.
  • منكرات المحاكم وفساد التقاضي التي تولد الاحتقان وتدفع المظلومين إلى أخذ حقوقهم بالرشا أو بالسلاح، ولذا توجب فيها الاحتساب الصارم، وقد قدم الفقه بدائله القوية في ما يعرف بديوان المظالم.
  • منكرات الفاحشة والفجور، والتي يجب الاحتساب فيها ضد أزمات السكن وغلاء المهور وتكاليف الأعراس العربية الجاهلية التي تحول دون الزواج وإحصان الشباب.
  • منكرات المخدرات وتغييب العقول، والتي يجب الاحتساب ضدها وضد مسبباتها من شيوع البطر واكتناز الثروة، وشيوع الفساد المالي الذي ولّد مدن الصفيح والعشوائيات التي تضيع فيها الحرمات.
  • منكرات الفساد العام والاستبداد، يحُتسب عليها بالجمعيات والربط والنقابات والإعلام التي تحد من تغول السلطة، وتردع المتهوكين في المال العام.

 بشيء من هذا أو كله نستحق الرحمة لقوله تعالى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [ التوبة،71] .