في أزمة “كورونا” لمسنا عن قرب- وعن معاناة أيضًا- ما لهذه الأزمة من آثار وتأثيرات في مختلف جوانب الحياة.. لكن يهمنا أن نقف هنا وقفة فكرية مع هذه الأزمة، لنرصد بعض الآثار والتأثيرات التي خلَّفتها على المستوى الفكري.

ويمكن أن نكتفي برصد ثلاثة أفكار كبرى أثارتها الأزمة، وجدَّدت الحديثَ حولها، واختلف الناس عليها كثيرًا، شأن الأفكار الكبرى والأحداث المؤثرة في الحياة.. وهذه الأفكار هي:

  • ما يتعلق بنظرية المؤامرة.
  • ما يتعلق بالأخذ بالأسباب وعلاقته بالتوكل.
  • ما يتعلق بمقصدَيْ الحفاظ على الدين وعلى الإنسان.

نظرية المؤامرة

منذ الأيام الأولى للجائحة، برزت فكرة وجود مؤامرة وراء هذا الانتشار.

ورأينا مثل هذه الأقاويل يرددها أناس كثيرون، ينتمون لتخصصات واهتمامات مختلفة، وبلدان شتى.. أي أنها لم تكن محصورة بفئة معينة..

وفي هذا الصدد، لا نستطيع نَفْيَ ولا إثبات هذه الأقاويل.. والتي قد تحتاج لوقت طويل حتى تنكشف حقيقتها، وقد لا تنكشف! غير أن اللافت أن نظرية المؤامرة كانت حاضرة في التفسير والتحليل من اللحظات الأولى، وما زالت تجد وجاهة لدى البعض.. وأن البعض بنى زعمه على أدلة أو إشارات واهية.. بما يجعل من المهم أن نتساءل:

– هل لهذا الحد أصبحت نظرية المؤامرة متجذرة وحاضرة، خاصة عند العقلية العربية والإسلامية؟

– وهل ثبوت النظرية من حيث المبدأ- والتي يمكن أن نعتبرها في العموم: تفريعًا لفكرة “الصراع”، أو “التدافع” بالتعبير القرآني- يعني أن نفسر كل شيء من خلالها.. أي: هل إذا صدقت نظرية المؤامرة كمنظور تحليلي في قضية أو قضايا ما، يعني هذا بالضرورة صدقَها على طول الخط وفي كل القضايا؟

– وإلى أي مدى يمكن أن تؤثر نظرية المؤامرة سلبًا على عقليتنا وقدرتنا التحليلية، وتصيبنا بعمى ألوان أو تحجب عنا الرؤية؟

أعتقد أننا بحاجة للغوص في إجابات هذه الأسئلة وغيرها، مما يتعلق بنظرية المؤامرة؛ حتى لا نستسهل التفسير، ونضل الطريق، ونرمي بالمسئولية على غيرنا، ونكتفي بدور المتفرج والمندهش دون أن نتساءل عن دورنا ومسئوليتنا وما يتوجب علينا فعله.. كما أعتقد أن إطلاق القول بنظرية المؤامرة قد أضرّ بنا كثيرًا، وحجب عنا رؤية الأسباب المركَّبة المتشابكة، والتي قلّما تخلو منها ظاهرة من الظواهر.

بجانب، أن هذا الإطلاق قد أورثنا نوعًا من الكسل الفكري والعملي، مقترنًا- ويا للعجب- بشيء من راحة الضمير؛ إذ تحمَّل “الغيرُ” كل الجرم، وأصبحت “البراءة” حقًّا مكتسبًا لنا..!!

الأخذ بالأسباب وعلاقته بالتوكل

هذه إشكالية قديمة معروفة لدى دارسي علم الكلام، والمهتمين بالفلسفة؛ وهي تختص من منظور أوسع بحرية الإنسان عن ذاته وأفعاله: حرية تامة أو جزئية.. وبخضوعه للمشيئة الإلهية: طوعًا أو كرهًا، كليًّا أو جزئيًّا.. ثم جاءت أزمة كورونا لتجدد هذا السجال الذي لم ينقطع عبر تاريخنا الطويل!

فإذا حدثتَ أحدهم عن الالتزام بالإجراءات الاحترازية، واجهك بصرامة وجدّ: ما كتبه الله سنراه، ولا يغني حذر من قدر(!!). وبعضهم بدلاً من أن يحض الناس على اتخاذ الأسباب، راح يحذرهم من أن الاهتمام بالأسباب ينافي الإيمان بالله!!

للأسف، لم نتخلص بعد من هذه الإشكالية التي تقعدنا عن الحركة المبصرة، وتجعلنا نتخبط في متاهات التواكل! وبدل أن نبادر للأخذ بالأسباب انطلاقًا من الأوامر القرآنية العديدة، مدركين ألا تعارض بين الإيمان بالله تعالى وبقدره النافذ من جهة، والأخذ بالأسباب من جهة أخرى؛ إذ بنا نبرر القعود عن اتخاذ الأسباب الصحيحة، ونظن ذلك توكلاً وما هو إلا تواكل! ونعتقده إيمانًا وما هو إلا فهم خاطئ للإيمان!

إن الحديث الشريف: “اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ”- أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك، وحسنه الألباني- قد أوجز القضية ودلنا على الطريق الصحيح؛ وهو أن نسلك الأسباب ولا نفرط فيما يمكن فعله، متوكلين على الله تعالى..

فهما- الأسباب والتوكل- أمران لا ينفصلان ولا يضاد أحدهما الآخر، بل يتكاملان؛ فبينما تتعلق الأسباب بعمل الجوارح، يتعلق التوكل بعمل القلب.. وعمل القلب حاضر قبل الأسباب ومعها وبعدها.. فأيُّ تعارض هنا؟!

مقصدَا الحفاظ على الدين وعلى الإنسان

وتلك إشكالية أخرى جددتها الأزمة؛ وذلك عندما تقرر منع صلاة الجماعة، خوفًا من انتشار الوباء.. فرأينا الأصوات المعارضة ترتفع بحجة أن الحفاظ على الدين مقدَّم على حفظ البدن.

والحقيقة، أن الاختلاف حول ترتيب الضروريات أو المقاصد الخمسة- الدين، النفس، العقل، العرض، المال- اختلاف قديم بين الأصوليين.. لكننا هنا بحاجة لتحديد معنى الدين؟ ومعرفة هل إغلاق المساجد إغلاقا مؤقتًا لمصلحة، يعني زوال الدين؟

ولماذا لا ننظر للأمر من زاوية أوسع لنرى أن هذا الإغلاق المؤقت إنما يؤكد معنى مهمًّا وهو أن الإسلام جاء لإسعاد الإنسان دنيا وآخرة، وللحفاظ عليه وحمايته معنويًّا وماديًّا.. وأن أزمة كورونا فرصة لإبراز هذا المعنى وتأكيده؛ خاصة أنه إذا استمر فتح المساجد ثم انتشر الوباء، فإن أصابع الاتهام وأصوات اللوم ستتوجهان حينئذ ليس للملتزمين بالدين فحسب، وإنما للدين نفسه.. مثلما ثارت شعوب أوروبا على “الدين” بعد أن رأت جمود “الكنيسة”، وعانت من تسلط “رجال الدين”!

إن الإسلام إذا كان دينًا خاتمًا وعالميًّا، فيجب أن نفهم أحكامه ونُبرز توجيهاته بما يؤكد ذلك ويتسق معه، وبما يبعث برسائل للإنسانية جمعاء بأن هذا هو دين الله الذي جاء لهداية الناس وإسعادهم، ولرفع العنت والمشقة عنهم، وإصلاح معاشهم ومعادهم..

إذن، هذه إشكاليات كبرى، طالما شغلت العقول.. ويبدو أنا بحاجة لمزيد من مدارستها والتفكر فيها.. وهو الأمر الذي كشفته أزمة كورونا.. ونرجو أن ننجح في هذا الاختبار.