لم يكن عمر الفاروق شهيرا -فحسب -بالمحدّث الملهم كما أخبر عنه الحبيب محمد «لقد كان فيمن قبلكم محدَّثون، فإن يكن في أمّتي أحد فإنه عمر[1]» ولا بذلك العبقري الذي لا  يقدر الآخرون أن يفروا فريه، كما  في حديث الرؤية التي حكاها النبي () في نزع الماء من البئر[2]، وإنما اشتهر أيضا بحمل ذلك السّوط العقابي المعروف تاريخيا ب “دِرّة عمر” .

إن الدرّة العمرية لم تحظ بذكر مستفاض في الصّحيحين، ولم تتداولها  كتب السنن الأربعة،  لكنّها مما استفاضت عنها الأخبار، وتناقلته كتب السّير والتّاريخ بإسهاب وثراء، فمثلها مما يتسامح في الكلام عنها، وخاصّة أنهّا لا تمثل حديثا نبويا، ولا يلزم أن ينتج عنها حكما فقهيا ملزما للأمة في تصرّفاتها ونظامها السّياسي والإداري،  فالدرّة العمرية كانت مشهورة رواية وأثرا كما كانت مرهبة ومخيفة واقعا وحسّا، وقد روي أن الشعبي قال: “كانت درة عمر أهيب من سيف الحجاج[3]” ومع حزم عمر بن الخطاب وعزمه، وشدته وصلابته، إلا أنه رضي الله عنه لم يمتلك تلك الدرة ليتسلط بها على رقبة العباد، ولا لتكون أداة سيطرة ونفوذ على الضّعاف والمساكين، وإنما كانت تمثّل رمزا من رموز الأخلاق، معلما من معالم الحسبة التي تحمل المجتمع على الفضائل وتنزهه عن الرذائل.

ومن الأخبار النادرة عن الدّرّة العمرية في كتب الصّحاح، مارواه البخاري رحمه الله، “سأل سيرين أنسا المكاتبة، فأبى، فانطلق سيرين إلى عمر فدعاه عمر وقال له، كاتبه، فأبى، فضربه بالدرة وتلا: فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا” فكاتبه[4].

إن الدرة العمرية كانت لقمع البدع، فقد طلق رجل زوجته ألفا، فعلاه عمر بالدرة، وقال: “كان يكفيك ثلاث” وقد أصابت درته طليحة الأسدية لما تزوجت من زوج آخر وهي ما زالت في عدتها[5].

والدّرة العمرية كانت رمزا لحث الناس على العمل والإنتاج وإنعاش سوق الاقتصاد والصناعة، فقد علا قوما بالدرة في المسجد ليخرجوا للعمل، وقال: “لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول اللهم ارزقني، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة” إن الدرة العمرية كانت لمنع الظلم والجور حتى على البهائم، فقد رأى رجلا يجر شاة ليذبحها، فعلاه بالدرة، وقال: “سقها إلى الموت سوقا جميلا[6]” .

 

تساؤلات عقلانية

ورغم كل ما سبق، فإن تساؤلات عقلانية تراودنا عند الحديث عن الدرة العمرية، فلنا أن نتساءل مثلا:  إذا كانت الدرة العمرية تتمتع بكل هذه المزايا والفضائل، فلماذا لم يلزم ابن خطاب الآخرين بحمل درر مماثلة؟ ولماذا لم  يصبح حمل الدرة الحسبية العمرية هدفا يتسابق إليه الخليفتان من بعده، وتصبح موضة العصر عند كبراء الصحابة، وينادى بها في أوساط المحتسبين وقادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ لماذا لم يشتهر ابن أبي قحافة، ولا ذي النورين ولا زوج فاطمة الزهراء  بحمل درر مماثلة؟؟

 

إن ابن الخطاب لم يلزم بذلك لأنه بعبقريته يدرك أن الدرّة وسيلة وليست غاية، ووسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اجتهادية تختلف فيها وجهات النظر حسب الرؤى والنظرات.

ولأن ابن الخطاب يدرك أن حمله للدرة سيكلوجي بالدرجة الأولى، فهو يتوافق مع نفسيته وسيكلوجيته وصلابته، وليس بالضّرورة أن يتوافق مع نفسيات وسيكلوجيات الآخرين، فرب حامل درة لا يرهبه الناس لضعفه وهوانه، ولذلك يخضع حاملو الدرر في عصرنا لتدريبات عسكرية وبوليسية قوية.  ولأن ابن الخطاب يدرك أنه لو تحوّل المجتمع كله إلى حملة الدرر والسّياط لم يؤمن أن يستغله البعض انتصارا للذات، وسيفا متسلطا على رقبة الآخرين.

إن المجتمع الصّحابي كان يدرك تماما هذه الميزة الفيزيائية والسيكلوجية للفاروق، وكانت تدرك حدود الدّرة وموقعها الفقهي في إطار واجب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك لم ترتفع الأصوات لحمل الدرر، ولم يتسابق إليها كبراء الصحابة لتصبح موضة اجتماعية جديدة.

وعندما ننظر إلى الفاروق نجد أنه كان الشخص المثالي لاتخاذ تلك الدرّة، فمع كونه بطلا شجاعا، شديدا صلبا، إلا أنه كان وقّافا عند كتاب الله، بعيدا عن السعي وراء انتصارات ذاتية، وتحقيق مكاسب شخصية، فالدّرة العمرية لم تكن مسلّطة على الرّعايا وأبناء المساكين والفقراء المخالفين للشرع والأخلاق والأدب العام فحسب، بل كان مسلطا حتى على عائلته (الملكيّة الأميريّة)، فقد ضرب عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما لبس ثيابا حسانا، وقال “رأيته قد أعجبته نفسه، فأحببت أن أصغرها إليه[7]” وأوجع الرجل الذي ادعى أن عمر أفضل الأمة بعد نبيها، فعلاه بالدرة وقال: “كذب، لأبو بكر خير مني ومن أبي ومنك ومن أبيك[8]”   بل إنه رضي الله عنه لم يكن يكابر أن يدير ظهره لينتقم منه من أصابته الدرة خطأ، فقد ضرب رجلا لمشيته مع النساء، فضربه بالدرة، فقال الرجل: “لئن كنت أحسنت لقد ظلمتني، ولئن كنت أسأت ما علمتني، فأعطاه عمر الدرة وقال: امتثل.  فعفى عنه الرجل[9]

رسالة الدرة

أخي المحتسب، أخي المسؤول، عندما نعطيك تلك الدرة العمرية، وتمتلك ذلك السوط والبندقية، ونجعلك في مقام القوة والنفوذ على الشعب والمجتمع والدّولة، فتذكر طريقة تعامل ابن الخّطاب مع درّته، اجعل درّتك وسوطك وسجنك وسلطتك الاقتصادية ومكانة دولتك الاستراتيجية، وقّافة عند كتاب الله، محترما للقوانين، حاميا للمجتمع، بارا بالضعيف، شديدا على الظلمة، راصّا للصف الأخوي الإسلامي،  وبهذا تكون صورة معاصرة جميلة للفاروق ولدرته الخالدة.

 

 


[1] البخاري، باب مناقب عمر، ج4، ص12.

[2] البخاري، باب نزع  الماء من البئر حتى يروي الناس. ج10، ص36.

[3] وفيات الأعيان، حرف العين، الشعبي، ج3، ص14.

[4] البخاري، باب المكاتب ونجومه في كل سنة نجم.  ج4. ص151.

[5] الموطأ (1961)

[6] سنن البيهقي الكبرى (19143)

[7] كنز العمال (36021)

[8] المصدر السابق (35623)

[9] أخبار مكة للفاكهاني، 484.