نزلت سورة التوبة على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة، وفيها مؤمنون صادقون، وهم خلص صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وآخرون منافقون تظاهروا بالإيمان، وهم في الحقيقة كفار يصدون عن دين الله ويكيدون للإسلام وللرسول وللمؤمنين، وهذه السورة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم تذكر لكلتا الطائفتين المؤمنين والمنافقين بعض قصص ومواقف، حيث بين الله تعالى قبول توبة المؤمنين، ورد على المنافقين كيدهم ومكرهم، وكشف الله في هذه السورة أسرار المنافقين، وفضح مكايدهم ومكامن مكرهم وأذيتهم.

وسورة التوبة لها أسماء أخر، وقعت في كلام السلف، من الصحابة والتابعين،  فروي عن ابن عمر، عن ابن عباس: كنا ندعوها أي: سورة براءة «المقشقشة»، كان هذا لقبا لها ولسورة «الكافرون» لأنهما تخلصان من آمن بما فيهما من النفاق والشرك، لما فيهما من الدعاء إلى الإخلاص، ولما فيهما من وصف أحوال المنافقين.

قال الزمخشري: لها عدة أسماء: براءة، التوبة، المقشقشة، المبعثرة، المشردة، المخزية، الفاضحة، المثيرة، الحافرة، المنكلة، المدمدمة، سورة العذاب؛ لأن فيها التوبة على المؤمنين، وهي تقشقش من النفاق، أي تبرئ منه، وتبعثر عن أسرار المنافقين، أي تبحث عنها، وتثيرها، وتحفر عنها، وتفضحهم، وتنكلهم، وتشرد بهم، وتخزيهم، وتدمدم عليهم. وتسمى أيضا البحوث؛ لأنها تبحث عن أسرار المنافقين.

وعن حذيفة رضي الله عنه: إنكم تسمونها سورة التوبة، وإنما هي سورة العذاب، والله ما تركت أحدا إلا نالت منه.

وعن ابن عباس في هذه السورة قال: إنها الفاضحة ما زالت تنزل فيهم، وتنال منهم، حتى خشينا ألا تدع أحدا، وسورة الأنفال نزلت في بدر، وسورة الحشر نزلت في بني النضير.

وما قاله ابن عباس لعل السبب أن المواقف المذكورة في هذه السورة من أحوال المنافقين كان المتصفون بها معروفين فكانت فضيحة!

و هذه السورة العظيمة هي آخر السور نزولا على النبي صلى الله عليه وسلم نزلت في آخر غزوات غزاها النبي صلى الله عليه وسلم وهي غزوة تبوك، وذهب أكثر العلماء إلى أن سورة التوبة نزلت دفعة واحدة.

ومن القصص التي جاءت في هذه السورة وتصف أحوال المنافقين وتشتمل على أحداث عجيبة، منها:

1- أول موقف من المنافقين هو أنه لما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالجهاد صار هؤلاء المنافقون يثبطون المسلمين، ويقولون -كما قال الله تعالى حاكياً عنهم-: {وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: ٨١]، فكان الواحد منهم يجتمع بالعدد من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو منافق، ولا يُعلم بأنه منافق؛ لأنه يتظاهر بالإسلام- فيقول لهم: كيف يخرج بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحر الشديد؟

2 – أن بعض المنافقين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! ائذن لي ولا تفتني ومن هؤلاء الجد بن قيس الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا جد! هل لك في جلاد بني الأصفر؟) فقال الجد بن قيس: يا رسول الله! إنك تعلم أنني مغرم بالنساء، وإنني أخاف إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر عنهن فأفتن عن ديني.

فأذَنْ لي يا رسول الله.

فأنزل الله تعالى فيه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:٤٩] أي أنه قال: إنه يخاف من فتنة النساء وهو كاذب، فسقط في فتنة النفاق.

وهذا الرجل هو الذي قال لولده -وكان له ولد صحابي فاضل اسمه عبد الله-: ما لي وللخروج في الريح والحر الشديد والعسرة إلى بني الأصفر، فأنا أخالفهم في منزلي فأغزوهم، وإني لعالم بالدوائر! أي: ينتظر الدوائر برسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال له ولده صاحب العقيدة الصلبة: لا والله! ولكنه النفاق، والله لينزلن بك قرآناً.

فضربه أبوه ضربة على وجهه بنعله، فانصرف عنه ابنه ولم يكلمه.

3- أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يتهيأ لغزوة تبوك علم أن ناساً من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي يثبطون الناس عن غزوة تبوك، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم طلحة بن عبيد الله مع نفر وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم هذا ففعل، فاقتحم المنافقون جدران البيت وفروا.

4 – من الأحداث أنه كان أولئك المتخلفون عن غزوة تبوك من المنافقين على قسمين: قسم منهم غلبهم الخوف والذعر والجبن والخور، فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبوا بأن يكونوا مع الخوالف، وأذن لهم الرسول مع أنه يعلم نفاقهم، كما قال تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة: ٤٣].

وقسم آخر من هؤلاء المنافقين قعدوا ولم يعتذروا، ولا شك أن قعودهم هذا فيه ما فيه من التثبيط للرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه.

ولم يكتف المنافقون بمثل هذا، بل سار بعضهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجفون بالجيش الإسلامي كلما سنحت فرصة.

5 – ومن ذلك أنه لما خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في أهل بيته أرجف المنافقون، فقالوا: ما ترك علي بن أبي طالب إلا استثقالاً له! فلما سمع بذلك علي بن أبي طالب أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! أسمعت ما يقول أولئك؟! فقال صلى الله عليه وسلم له: أما ترضى -يا علي – أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى)، فرجع رضي الله عنه وأرضاه راضياً ممتثلاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

6- ومن ذلك أيضاً لمزهم للمتطوعين من المؤمنين في الصدقات، فلما جاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه بأربعة آلاف دينار قال المنافقون: ما جاء بها إلا رياءً.

ولما جاء صحابي آخر لا يملك إلا صاعين من تمر، فأبقى صاعاً لأولاده طعاماً وأتى بالصاع الثاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وضعه بين يديه قال المنافقون: إن الله ورسوله غنيان عن صاعك هذا، فأنزل الله عز وجل: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة:٧٩].

7 – ومن ذلك أيضاً أنه كان يقول بعض المنافقين للمسلمين: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم لبعض؟ والله! لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال.

يقولون هذا إرجافاً وترهيباً للمؤمنين، ولهذا كان هؤلاء الذين قالوا ما قالوا في أثناء الغزوة يقولون: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء -يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلص من أصحابه- أرغب بطوناً ولا أجبن عند اللقاء.

فأنزل الله سبحانه وتعالى فيهم قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} [التوبة: ٦٥ – ٦٦][1].


[1]  الأحداث المذكورة مستفادة من دروس للشيخ عبد الرحمن صالح المحمود، قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية