يُعدُّ طليحة الأسدي من المتنبئة الَّذين ظهروا في الإِسلام أواخر عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحياة، فهو المتنبئ الثالث واسمه: طليحة بن خويلد بن نوفل بن نضلة الأسدي، ولقد قدم مع وفد قومه أسد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الوفود سنة تسع للهجرة، فسلَّموا عليه، وقالوا له ممتنِّين: جئناك نشهدُ أن لا إِلـه إِلا الله، وأنك عبده ورسوله، ولم تبعث إِلينا، ونحن لمن وراءنا، فأنزل الله عز وجل قوله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *} [الحجرات: 17]. ولما عادوا ارتدَّ طليحة، وتنبَّأ، وعسكر في سميراء (منطقة في بلادهم)، واتَّبعه العوامُّ، واستكشف أمره (وأوَّل ما صدر عنه وكان سبباً لضلال الناس: أنَّه كان مع بعض قومه في سفرٍ فأعوزهم الماء، وغلب العطش على النَّاس فقال: اركبوا أعلالاً (اسم فرسه) واضربوا أميالاً؛ تجدوا بلالاً. ففعلوا، فوجدوا الماء، فكان ذلك سبب وقوع الأعراب في الفتنة).

ومن خزعبلاته: أنَّه رفع السُّجود من الصَّلاة، وكان يزعم: أنَّ الوحي يأتيه من السَّماء، ومن أسجاعه الَّتي ادَّعى أنَّه يوحى له بها قوله: والحمَام، واليَمام، والصُّرد الصَّوام قد صُمْنَ قبلكم بأعوامٍ؛ ليبلغن ملكنا العراق، والشام) وغرَّته نفسه، واشتدَّ أمره، وقويت شوكته، فبعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ضرار بن الأزور الأسدي لمقاتلته؛ لما سمع من أمره، ولكنَّ ضراراً لم يكن له به قبل، وذلك لتعاظم قوَّته مع الزَّمن، ولا سيَّما بعد أن امن به الحليفان: أسد، وغطفان، وتقول عنه دائرة المعارف الإِسلاميَّة: ويروى عنه أنَّه كان يرتجل الشِّعر، ويخطب عفو السَّاعة في ميدان القتال. ويبدو أنَّه كان مثالاً ـ حقّاً ـ للزَّعيم القبليِّ الجاهليِّ. وقد اجتمعت فيه صفات: العرَّاف، والشَّاعر، والخطيب، والمقاتل.

وَيُشَمُّ من هذا النَّص رائحة المدح المبطن لطليحة من قبل هذه الموسوعة الشَّهيرة، فهو في نظرها الزَّعيم القبلي المثال، يرتجل الشِّعر، والخطابة، وهما أهمُّ ما كان يحرص عليه العربيُّ آنذاك، ولا يستغرب هذا الاتجاه من هذه الموسوعة الَّتي جعلت من اللَّمز في الإِسلام ديدنها، سواء أعرفت: أنَّ طليحة عاد فأسلم، وحسن إِسلامه، أم لم تعرف.

وتوفِّي رسول الله، ولم يُحسم أمر طُليحة، وتولَّى الخلافة الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ وعقد الألوية للجيوش، والأمراء للقضاء على المرتدِّين، وكان من ضمنهم طليحة، ووجَّه إِليه الصِّديق جيشاً بقيادة خالد بن الوليد، روى الإِمام أحمد: … أنَّ أبا بكر الصديق لما عقد لخالد بن الوليد على قتال أهل الردَّة قال: سمعت رسول الله(ص) يقول: « نِعْمَ عبد الله، وأخو العشيرة خالد بن الوليد سيفٌ من سيوف الله سَلَّه الله على الكفَّار، والمنافقين ».

ولما توجَّه خالد من ذي القصَّة، وفارقه الصِّدِّيق، واعده أنَّه سيلقاه من ناحية خيبر بمن معه من الأمراء، وأظهروا ذلك ليرعبوا الأعراب، وأمره أن يذهب أولاً إِلى طليحة الأسدي، ثمَّ يذهب بعده إِلى بني تميم، وكان طليحة بن خويلد في قومه بني أسد، وفي غطفان، وانضمَّ إِليهم بنو عبس، وذبيان، وبعث إِلى بني جَدِيلة، والغوث من طياي يستدعيهم إِليه، فبعثوا أقواماً منهم بين أيديهم ليلحقوهم على أثرهم سريعاً، وكان الصِّدِّيق قد بعث عديَّ بن حاتم قبل خالد بن الوليد، وقال له: أدرك قومك لا يلحقوا بطليحة، فيكون دمارهم.

فذهب عديٌّ إِلى قومه بني طياي فأمرهم أن يبايعوا الصِّدِّيق، وأن يراجعوا أمر الله، فقالوا: لا نبايع أبا الفَصِيل أبداً ـ يعنون: أبا بكرٍ رضي الله عنه ـ فقال: والله ليأتينكم جيشه فلا يزالون يقاتلونكم حتى تعلموا: أنَّه أبو الفحل الأكبر! ولم يزل عدي يَفتِل لهم في الذِّروة والغارب حتَّى لانوا، وجاء خالد في الجنود، وعلى مقدَّمة الأنصار الَّذين معه ثابتُ بن قيس بن شمَّاس، وبعث بين يديه ثابت بن أقرم، وعكَّاشة بن محصن طليعة، فتلقَّاهما حِيَال ـ ابن أخي طليحة ـ فقتلاه، فبلغ خبره طليحة، فخرج هو وأخوه سلمة، فلمَّا وجدا ثابتاً، وعُكَّاشة تبارزوا؛ وحمل طليحة على عُكَّاشة فقتله، وقتل سلمة ثابت بن أقرم، وجاء خالد بمن معه فوجدوهما صريعين، فشقَّ ذلك على المسلمين، ومال خالد إِلى بني طياي فخرج إِليه عديُّ بن حاتم، فقال: أنظرني ثلاثة أيام، فإِنهم قد استنظروني حتى يبعثوا إِلى مَنْ تعجَّل منهم إِلى طليحة حتَّى يرجعوا إِليهم، فإِنهم يخشون إِن تابعوك أن يقتل طليحة من سار إِليه منهم، وهذا أحبُّ إِليك من أن يعجلهم إِلى النَّار، فلمَّا كان بعد ثلاث جاءه عدي في خمسمئة مقاتل ممَّن راجع الحق، فانضافوا إِلى جيش خالد، وقصد خالد بني جَدِيلة، فقال له: يا خالد! أجِّلني أياماً حتَّى اتيهم، فلعلَّ الله أن ينقذهم كما أنقذ الغوث فأتاهم عديٌّ، فلم يزل بهم حتَّى بايعوه، فجاء بإِسلامهم، ولحقَ بالمسلمين منهم ألف راكبٍ، فكان عديٌّ خير مولود، وأعظمه بركةً على قومه رضي الله عنه.

أ ـ معركة بازخة والقضاء على بني أسد

سار خالد حتَّى نزل باجا، وسلمى، وعَبَّى جيشه هنالك، والتقى مع طليحة الأسدي بمكانٍ يقال له: «بازخة» ووقفت أحياء كثيرةٌ من الأعراب ينظرون على مَنْ تكون الدَّائرة، وجاء طُليحة فيمن معه من قومه، ومن التفَّ معهم، وانضاف إِليهم، وقد حضر معه عينة بن حِصْن في سبعمئةٍ من قومه بني فزارة، واصطفَّ النَّاس، وجلس طليحة ملتفّاً في كساءٍ له يتنبَّأ لهم، ينظر ما يوحى إِليه فيما يزعم، وجعل عينة يقاتل حتَّى إِذا ضجر من القتال جاء إِلى طليحة، وهو ملتفٌّ في كسائه، وقال له: أجاءك جبريل؟ فيقول: لا، فيرجع، فيقاتل، ثمَّ يرجع، فيقول له مثل ذلك ويردُّ عليه مثل ذلك، فلمَّا كان في الثالثة قال له: هل جاءك جبريل؟ قال: نعم، قال: فما قال لك؟ قال: قال لي: إِنَّ لك رحاً كرحاه، وحديثاً لا تنساه، قال: يقول عينة: أظنُّ أنَّه قد علم الله سيكون لك حديثٌ لا تنساه، ثمَّ قال: يا بني فزارة! انصرفوا، وانهزم، وانهزم النَّاس عن طليحة، فلمَّا جاءه المسلمون ركب على فرسٍ كان قد أعدَّها له، وأركب امرأته النَّوَّار على بعيرٍ له، ثمَّ انهزم بها إِلى الشَّام، وتفرَّق جمعه، وقد قتل الله طائفةً ممَّن كان معه.

وقد كتب أبو بكر الصِّديق إِلى خالد بن الوليد حين جاءه: أنَّه كسر طليحة ومن كان في صفِّه، وقام بنصره، فكتب إِليه ليزودك ما أنعم الله به خيراً! واتَّق الله في أمرك، فإِنَّ الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، جدَّ في أمرك، ولا تلن، ولا تظفر بأحدٍ من المشركين قتل من المسلمين إِلا نَكَّلْتَ به، فأقام خالد ببازخة شهراً يُصَعِّد عنها، ويصوِّب، ويرجع إِليها في طلب الَّذي وصاة الصديق، فجعل يتردَّد في طلب هؤلاء شهراً يأخذ بثأر مَنْ قتلوا من المسلمين الَّذين كانوا بين أظهرهم حين ارتدُّوا، فمنهم من حرَّقه بالنَّار، ومنهم مَنْ رَضَخه بالحجارة، ومنهم من رَمَى به من شواهق الجبال، كلُّ هذا ليعتبر بهم مَنْ يسمع بخبرهم من مرتدَّة العرب.

ب ـ وفد بني أسد وغطفان إِلى الصِّدِّيق، وحكمه عليهم

لمَّا قدم وفد بازخة ـ أسد، وغطفان ـ على أبي بكر يسألونه الصُّلح؛ خيَّرهم أبو بكر بين حرب مُجليةٍ، أو خطَّة مخزيةٍ. فقالوا: يا خليفة رسول الله! أما الحرب المجلية فقد عرفناها، فما الخطَّة المخزية؟ قال: تؤخذ منكم الحلقة، والكُرَاع، وتتركون أقواماً تتبعون أذناب الإِبل حتَّى يُرِيَ الله خليفة نبيِّه، والمؤمنين أمراً يعذرونكم به، وتودون ما أصبتم منَّا، ولا نودي ما أصبنا منكم، وتشهدون أنَّ قتلانا في الجنَّة، وأن قتلاكم في النَّار، وتدون قتلانا، ولا ندي قتلاكم. فقال عمر: أمَّا قولك تَدُوْنَ قتلانا؛ فإِنَّ قتلانا قُتِلوا على أمر الله، لا ديات لهم، فامتنع أبو بكر، وقال عمر في الثاني: نِعْمَ ما رأيت.

ج ـ دروسٌ، وعبرٌ، وفوائد

ثقة الصِّدِّيق بالله، وخبرته الحربيَّة: في قول الصديق لعديِّ بن حاتم: أدرك قومك، لا يلحقوا بطليحة، فيكون دمارهم. فيه مثالٌ على قوَّة يقين أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ وثقته بنصر الله، فقد حكم على نتيجة المعركة مع طياي قبل الدُّخول فيها، وفي أمر أبي بكرٍ خالداً ـ رضي الله عنهما ـ بأن يبدأ بحرب قبيلة طياي مع أنَّها أبعد من تجمع طليحة خطةٌ حربيَّةٌ ناجحةٌ، وذلك ليحول دون انضمام طياي إلى طليحة، وليضطر من انضمَّ إِليه منهم إِلى التخلِّي عنه للدِّفاع عن قبيلتهم، ثمَّ في إِظهار أبي بكرٍ: أنَّه خارجٌ جهة خيبر ليلاقي خالداً ببلاد طيأىٍ تخطيطٌ حربيٌّ بارعٌ، وذلك لإِرهاب تلك القبيلة، والقبائل المجاورة، وتظهر براعة الصِّديق في اختيار الرِّجال أن اختار لهذه المهمَّة الَّتي لها ما بعدها أبا سليمانَ خالد بن الوليد الَّذي لم تنتكس له راية.

وفي خطاب الصِّدِّيق لخالدٍ بعد انتهاء معركة بزاخة فوائد منها: الدُّعاء لخالد الذي يُفهم منه الثَّناء عليه بإِحسانٍ، كما يتضمَّن أمره بتقوى الله، وذلك فيه العصمة من الوقوع في الزَّلل، واتِّباع الهوى، كما أمره بالجدِّ، والحزم مع الأعداء لأنَّهم مازالوا في فورة طغيانهم. وهذا موقفٌ قويٌّ يدلُّ على حزم الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ وبصيرته النافذة، فهناك قبائل لا تزال متحيِّرةً، ومتردِّدةً بين الحقِّ والباطل، والهدى والضَّلال، والخير والشَّرِّ، والإِيمان والكفر؛ بحاجةٍ إِلى تأديبٍ وردْعٍ، حتَّى يزول طغيانهم، فالموقف من أبي بكرٍ يقتضي أعلى درجات القوَّة، والحزم، والسُّرعة، فكانت منه القوَّة في محلِّ القوَّة، كما كان منه اللِّين في محلِّ اللِّين. قال الشاعر:

ووضعُ النَّدَى في موضعِ السَّيف للنَّدى          مُضرٌّ كوضعِ السَّيف في موضعِ النَّدى