“ليست مشكلة المرأة شيئًا نبحثه منفردًا عن مشكلة الرجل؛ فهما يشكلان في حقيقتهما مشكلة واحدة، هي مشكلة الفرد في المجتمع”، هكذا لخص مالك بن نبي رحمه الله القضية التي كانت ناشبة في زمنه وما تزال تكبر على مدى الأيام حتى أصبحت إحدى وسائل تعذيب الضمير العربي والإسلامي من قبل الكتاب والمنظمات الغريبة.

المسألة إذن –في نظر ابن نبي- يخل بها أي نقاش يطرحها منفصلة عن سياقها الكلي؛ سياق أزمة الفرد (رجلا أو امرأة) في المجتمع، ذلك بأن المرأة هي شق الرجل، وأي اختلال يصيب أحد الشقين هو نابع وراجع في أساسه لمشكلة متعلقة بالبنية كلها، هل هذا يعني المطالبة بتجاهل ومن ثم إلغاء كل الجهود التي قدمتها الحركة النسوية العربية وكل المكاسب التي أحرزتها في تاريخها الطويل؟ طبعا، لا. لكنه يدعو لإعادة النظر بأناة في موضوع يمس المجتمع كله.

وفي إطار نقاشه لموضوع (مشكلة المرأة) الذي كان الحوار في زمنه دائرا بين الرجال؛ يذهب إلى تحليل نفسي طريف حيث يرى أن “الأقاويل التي تقولها على حقوق المرأة أدعياء تحريرها أو الذين يطالبون بإبعادها من المجتمع ما هي إلا تعبير عن نزعات جنسية لا شعورية”، إن الطرفين –في نظر ابن نبي- ينطلقان من نفس الدافع ولكنهما يسيران في طريقين مختلفين.

ولما كان تعليل الداعين لـ”تحرر”ها بالدافع آنف الذكر واضحا فإنه أعطى مساحة أكبر لتوضيح هذا التعليل بالنسبة لتيار المحافظين “المتمسكين بإبعاد المرأة عن المجتمع والمؤمنين بضرورة إبعادها في سجنها التقليدي”، إن في تعللهم لموقفهم بالحفاظ على الأخلاق مغزى كامن يتمثل في (التمسك بالأنثى)، إن الرجل وهو يدافع عن مثل هذا التفكير يستبطن الخوف على أنثاه التي لا يريد أن يشاركه فيها غيره، وهذا يظهر جليا الاعتبار الجنسي في تفكيره.

يرى ابن نبي أن أول خطوة في التعامل مع المشكلة ينبغي أن يبدأ بـ”تصفية مثل هذه النزعات”، ومن ثم تكون الخطوة الموالية هي مباشرة الحل على أساس يكون الاعتبار الأول فيه لمصلحة المجتمع، وليس لصالح محاصصة أو مساواة حدية تؤدي إلى اختلال في التناسب اللازم للإصلاح الاجتماعي، هذه المحاصصة والمطالبة بـ”المساواة” (بمفهومها الحسابي وليس القيمي)  هي إحدى الاختلالات البنيوية التي لم تستطع الحركة النسوية العربية تجاوز الطرح الغربي فيها، رغم ما فيه من حيف بالمرأة وبالمجتمع ككل في جوانب تعمدت الحركة النسوية العالمية حجبها عن دائرة الضوء أو إضاءتها بطريقة تشوهها في نظر المرأة العربية والمسلمة.

ويبدو أن ابن نبي كان يصارع بوجهة نظره في واقع شديد الحساسية تجاه قضية المرأة، ومستعد لاتهام من لا يسير في ركاب الدعاية لما سمي بـ”حقوق المرأة” بمعاداتها، فكان يرد على أولئك بمنطقه الخاص، يقول: “ولقد نعلم أنه يضيق صدر بعض ذوي الأذواق الرقيقة بما نقول، فيحتجون علينا بأن مثل هذا الموقف يذيب المرأة في المجتمع، ولكننا نقول لهم: إن إعطاء حقوق المرأة على حساب المجتمع معناه تدهور المجتمع، وبالتالي تدهورها، أليست هي عضوا فيه؟ فالقضية ليست قضية فرد وإنما هي قضية مجتمع.

إن ميزة تفكير ابن نبي المتعلق بالمرأة هو أن ينظر إليها من زاوية محوريتها في انسجام الكون الاجتماعي، فهي مصدر حنانه ومأوى ضعافه ومتعبيه، والتركيز على تقديس هذا الدور هو ملاك الأمر الذي لم تنتبه له الحركة النسوية العربية التي أخذت مفاهيمها ومصطلحاتها ومطالبها من الغرب، في حين لم تنتبه إلى أن الغرب أودى بالمرأة فيه إلى وضع لا تحسد عليه، من خلال القذف بها في أتون المصانع وفي بيئة مليئة بالأخطار، موحيا لها أن عليها أن تأكل من عرق جبينها وإلا ضاعت في دوامة الحياة الصناعية والرأسمالية المتوحشة.

هذا الوضع أدى بالمرأة الغربية إلى فقدان الشعور بالعاطفة نحو الأسرة، التي أصبحت تراها عبئا وعائقا دون حياتها المرتبطة بالكسب اليومي، في ظل نكوص الرجل عن أداء مسؤولياته بفعل التفكك الاجتماعي الحاكم أخلاقيا وقانونيا، فأنتج هذا الوضع في الغرب مشكلات جديدة.

لم يكن ابن نبي الوحيد الذي عالج قضية المرأة في السياق الإسلامي والعربي وإن كان الأعمق في الطرح، فقد كتب المفكر السوري مصطفى السباعي كتابه: “المرأة بين الفقه والقانون” الذي قارب فيه قضية حقوق المرأة من زاوية نظر مقارنة، وقدم فيه أطروحات وازنة، ثم جاء محمد الغزالي فكتب: “المرأة بين التقاليد الراكدة والعادات الوافدة”، وقد استفاض في النقاش لقضايا جوهرية مطروحة منها نقد بعض الفتاوى الدينية التي تأسست على تقاليد راكدة حرمت المرأة من حقوق أساسية مثل التعلم والمشاركة في مجالات الحياة المختلفة، كما ناقش منتقدا بعض الاستلهام الأعمى الذي يدعو له بعض الكتاب الذين بهرهم الغرب فلم يفرقوا بين أدواته التقنية النافعة وعاداتها الاجتماعية السيئة التي تقف خلفها فلسفات مادية لا تقيم وزنا لقيم الإنسان وأخلاقه ودينه، أما عبد الحليم أبو شقة فقد قام بعمل حمع استقصائي للنصوص والآثار المتعلقة بالمرأة وحقوقها وواجباتها وأدوارها في المجتمع النبوي، الذي يمثل الصورة النموذجية والمثالية للمجتمع المسلم.

ولو أن الحركة النسوية العربية استفادت من تلك المصنفات وخصوصا موسوعة أبو شقة لاستطاعت أن تنتج مصطلحاتها ومفاهيمها الخاصة بها، مما ستنتج عنه رؤية نسوية منسجمة مع ثقافة المجتمع ودينه وأخلاقه، ولما بقيت عالة على الحركة النسوية العالمية في مصطلحاتها ومطالبها، والتي جعلتها تبدو كأنها شيء زائد على المجتمع، رغم أنها من صميمه ورغم ما يمكن أن تؤديه من أدوار رئيسة في مسيرة بنائه وتطوره، لو نجحت في إنتاج مصطلحات ومطالب نابعة من هويتها وحاجاتها.