تناولنا في مقالتين سابقتين بعض القضايا التي ترتبط بتحديد موقف الباحث من التراث والتصورات الأساسية التي تحكم نظرة الباحث وطريقة تعامله معه، وهي أفكار معينة للباحث تتطلب النظر المعمق منه. ونتناول في هذه المقالة القواعد المنهجية للتعامل مع “التراث التربوي الإسلامي” نموذجًا لتخصصات مماثلة في فروع العلوم الإنسانية، وهو نموذج أراد كاتب المقالة تقديمه من مجال تخصصه الأكاديمي، يمكن أن يقترب من تخصصات مماثلة في فروع العلوم الإنسانية المختلفة التي يزخر بها التراث. أو الاستفادة منها في صنع قواعد مماثلة.

القاعدة الأولى – التأصيل المنهجي لمضامين التراث التربوي

وهذا التأصيل يشمل الجوانب التالية[1]:

أ- التأصيل التحليلي لاتجاهات الفكر التربوي في المجال التراثي المدروس من القرآن والسنة النبوية، أي رد الفكر إلى أصوله الثابتة أو الفكرية الإنسانية.

ب- التأصيل للاتجاه الفكري في الكتاب التراثي، بتأصيل مفاهيمه ومدركاته باستخدام المنهج التحليلي والمقارن.

ج- التأصيل اللغوي الحضاري للمدركات والمفاهيم والمضامين والدلالات التربوية التراثية بالرجوع إلى لغة القرآن الكريم والسنة النبوية، والدلالات اللغوية للمصطلحات والمفاهيم العربية السائدة فى عصر مؤلف النص التراثي، وذلك للوقوف على الدلالة الحقيقية لتلك المفاهيم.

د- التأصيل اللغوي الحضاري للمفاهيم والمصطلحات التربوية الإفرنجية المقابلة أو الموازية، أو المطابقة طبقاً للغة الفنية أو المصطلحات السائدة الآن، وبالرجوع إلى المعاجم اللغوية والتربوية حتى تأتي تلك المفاهيم المقابلة في إطارها الصحيح أو معبرة عن المفهوم التراثي.

إن متطلب التأصيل يعالج أزمتي التبعية  والاستلاب التي تعرضت لهما الشخصية المسلمة عبر قرون الاستعمار الغزو الفكري مرورا بأفكار الحداثة وصولًا إلى العولمة وما بعد العولمة، وهو ما أثر على هذه الشخصية معرفيًا ووجدانيًا، وتعرضت لإصابات في المفاهيم والتصورات المؤسسة للحركة والفعل الحضاري، فتوارت عن التأثير والفعالية الحضارية، ومن ثم فهي في حاجة إلى برنامج ثقافي تربوي تأصيلي يرد إليها هويتها ويبعث مفاهيمها وتصوراتها إلى الوجود مرة أخرى.

القاعدة الثانية – تعدد مناهج درس التراث التربوي

من المفيد أن تتعدد مناهج درس وقراءة التراث التربوي لينتج من هذا التعدد تعدد في نتائج هذا الدرس وثراء معرفي يقابل تنوع وثراء التراث التربوي في جوانبه الفكرية التربوية والاجتماعية والثقافية، وهذا يتطلب “استخدام بعض الأطر التحليلية في دراسة الظواهر الاجتماعية والإنسانية من مثل أصول المنهج المقاصدي باعتباره نموذجاً إرشادياً، وما يمكن تحريكه ضمن تشكيلات بحثية ومنهجية… وكذلك تأسيس عناصر المنهج النفسي في دراسة أصول الظواهر الاجتماعية والإنسانية والنفسية والتاريخية وتطورها” بما يحرك عناصر تطبيق نظمها يمكن أن تنتج بنيات معرفية على شاكلتها تمتاز بقدر من التحقق والتدقيق وإمكانيات التعميم”. [2]

القاعدة الثالثة – نقد التراث التربوي

ونقد التراث التربوي يعني عدم التسليم بكل ما جاء فيه، وذلك من أجل بناء معرفة تراكمية تتجه نحو الوصول إلى الحقيقة التربوية، وهذا النقد يتضمن الجوانب التالية[3]:

أ- اكتشاف المحاور الأصيلة للفكر التربوي، من خلال التحليل الناقد للتراث التربوي، وإعادة بنائه، والتعبير عنه بلغة العصر.

ب- تنقية التراث التربوي من الشوائب التي علقت به، وكان لها أثرها الكبير في سيادة كثير من الأوهام إما في داخله، أو في عقول الناس وسلوكهم.

ج- نقد الاتجاهات التربوية التراثية وتحليلها على ضوء الخبرة التاريخية لانتقاء الأصيل منها والمعبر عن الهوية العربية الإسلامية والعمل على بلورتها لتصبح جزءاً من المعرفة التربوية المعاصرة، لتسهم في حل مشكلات الواقع التربوي الراهن، ولتسهم في تشكيل الوعي التربوي للإنسان العربي والمسلم المعاصر. بحيث تصل ما انقطع، ليستأنف الفكر التربوي اجتهاده، وإبداعه من طريق موصول بالخبرة التاريخية، لا من طريق منقطع منبت الصلة مع ماضيه وحاضره.

د- الكشف عن المبادئ التربوية المتضمنة في هذا التراث، وتحليل ونقد الاتجاهات التي تركز على الجزئيات، ورد تلك الجزئيات إلى مبادئها، والمبادئ إلى الأصول الأساسية حتى تضمن موضوعيتها.

القاعدة الرابعة – وظيفية الدرس المعرفي للتراث التربوي

لا يدرس التراث التربوي لذاته أو من أجل تقديم إثبات على وجوده أو ضرورته أو من باب المتعة العقلية أو الرياضة الذهنية، إن الدرس المعرفي للتراث التربوي الإسلامي ينبغي أن يقوم على تلبية احتياجات الواقع التربوي المعاصر والإسهام في حل قضاياه الراهنة بما يوفره من أسس وقواعد معرفية للنظرية التربوية المعاصرة، أو الاستفادة من الخبرة التطبيقية المتضمنة في ذلك التراث.

إن وظيفية الدرس المعرفي للتراث تتطلب “استيعاب التراث التربوي ودراسته حتى يمكن الاستفادة بما فيه من آراء صحيحة وسليمة، يمكن أن تفيد في تحسين التربية، وتوضيح جوانب الضعف لتجنبها في ضوء الواقع التربوي، وجوانب قوته وضعفه حتى ترد الأسباب إلى أسبابها، بمعنى أنه مع موضوعية دراسة التراث يجب الالتحام بالواقع التربوي، حتى يمكن إحداث التغيير المطلوب تحقيقه، واستفتاء التراث هنا ضروري ليقام الجديد على أساس قديم ملائم، وتكييف الجديد مع القديم حتى لا يرفض أو يلفظ”[4].

وهذا يتطلب – أيضاً – “أن يتم اختيار نصوص ومضامين “الموروث التربوي” الذي له اتصال بقضايا الواقع التربوي المعاصر بما يساهم في سد احتياجات المجتمع المعاصر؛ لأن الموروث التربوي ليس منعزلاً عن تيار الحياة المجتمعية”.[5] ومن هذه القضايا: قيمة المعرفة التربوية، نظام تمويل التعليم، ديمقراطية التربية والتعليم، موقع الحرية في الفكر التربوي الإسلامي، العدل التربوي، التعليم والعمل، الانفتاح الحضاري”[6].

 القاعدة الخامسة – إدراك تأثير عاملي الزمان والمكان على المنتوج التربوي التراثي

ينبغي في منهجية الدرس المعرفي للتراث التربوي الإسلامي ملاحظة تأثير عاملي الزمان والمكان بمتغيراتهما الكثيرة على هذا الفكر من هذا الجانب أو ذاك، فهذا الفكر هو إفراز الواقع مختلطاً بعنصري الزمان والمكان، وقد يصيبه النقص من هنا أو هناك، وقد يكون فيه الإيجابية، والمعيار الأساسي في هذا هو الإطلالة بعين ثقافية شمولية على كافة معطيات هذا الفكر في ضوء الأبعاد الظرفية المكانية والزمانية.

ومن ناحية أخرى فإن غياب إدراك تأثير عاملي الزمان والمكان يوقع الباحث في التراث التربوي في أخطاء تعميمات لا تتصل بالنظرة العلمية والمنهجية الراشدة، ولكنها ترتبط بالأبعاد الوجدانية والعاطفية بالإضافة إلى عنصري “التعصب” و”التحيز”. “وهما أخطر ما يكون على عملية البحث العلمي، وخاصة بالنسبة للموروث، وذلك لارتباط الموروث بالتاريخ القومي والوطني، وبالعقيدة الدينية، والنزعة المذهبية سواء بالسلب أو الإيجاب”[7].

القاعدة السادسة – الانطلاق من داخل التراث التربوي لا من خارجه في ضوء سياقه الحضاري

حاولت بعض الاتجاهات الفكرية تطبيق مناهج غربية معاصرة على درس التراث متجاهلة خصوصية هذا التراث الفكرية والعقدية، رغم تواصله الإنساني في المجال الزمني والمكاني أثناء إنشائه، والدعوة هنا إلى الانطلاق في الدرس المعرفي للتراث من داخله لا من خارجه، “أي دراسة هذا الفكر التراثي من داخله بألفاظه هو من وجهة نظر حضارية خاصة مفهومه توضح أبعاد وجوانب الحياة، ومغزى الجهد الإنساني… وفهم عوامل التكوين والنشأة، ودراسة مظاهر وجوانب الإبداع والإيجابية وعوامل السكون والجمود والسلبيات، والمواقف والمشكلات التي واجهها هذا التراث التربوي”[8] .

كما ينبغي – أيضاً – وضع التراث التربوي في سياقه الحضاري والاجتماعي من خلال النظرة التكاملية للتراث الإسلامي بصفة عامة وموقع التراث التربوي وموضعه فيه بصفة خاصة.

فعندما نتوقف أمام فكرة تربوية من موروثنا التربوي، يجب أن نضعها في سياقها المجتمعي الحضاري، ذلك أن مثل هذا الأمر يعتبر أمراً حاسماً فيما يجب أن نأخذ ونترك من الموروث، فقد يكون الفكر نتاج فترة ضعف، أو تراجع حضاري مما ينعكس على نوعيته وتوجهاته، فيصبح من المؤكد أنه غير مرغوب فيه، والعكس صحيح… وهذا يتطلب إدراك كافة المتغيرات التي أحاطت بنشوء هذا الموروث ومدى تأثره بهذه المتغيرات والظروف الحضارية والمجتمعية بما يساهم في تحقيق فهم أفضل لهذا الموروث[9].

القاعدة السابعة – فهم الحاضر التربوي والوعي بقضاياه ومشكلاته

كما تؤكد هذه الدعوة المنهجية على الانطلاق من داخل التراث التربوي ذاته، ففي الوجه الأخر من هذه الدعوة ضرورة فهم الحاضر التربوي المعاصر بقضاياه ومشكلاته والانطلاق منها نحو الدرس المعرفي والتطبيقي لهذا التراث، وذلك لتبين مدى قدرة هذا التراث في حل قضايانا التربوي المعاصرة وبما يحقق الهدف الأساس من درس التراث التربوي.  

وإذا كان من معايير الاختيار والانتقاء في موروثنا التربوي أن يتسق الموضوع المختار مع اهتمامات الفكر التربوي المعاصر، فإن مما يكمل هذا هو مدى ما يمكن أن يكون من دور للقضية المختارة بالنسبة لسد احتياجات المجتمع المعاصر؛ ذلك أننا لا نتعامل مع الفكر التربوي، سواء المعاصر منه أو الماضي على اعتبار أنه جسم قائم بذاته منعزل عن تيار الحياة المجتمعية[10].

القاعدة الثامنة – الاعتبار المنهجي لتطور النظريات التربوية

ليس معنى الانشغال بالبحث في التراث التربوي هو الانعزال عن التطورات المعاصرة أو الانغماس في الماضي؛ بل إن الدرس المعرفي للتراث يتطلب وضع الاعتبار المنهجي للتطورات الحادثة في مجال النظريات التربوية موضع اعتبار وعناية دروس – أيضاً- “فالمضمون التربوي الذي يتم اختياره للدرس والبحث ينبغي أن يراعي معيار “تطور البحث العلمي” وما وصل إليه من نتائج في مجالات التربية وعلم النفس، وألا يتعارض مع هذا المضمون أو يناقض نتائج هذه البحوث أو النظريات العلمية”[11].

القاعدة التاسعة – البعد المستقبلي

التراث التربوي الإسلامي لا يزخر فقط بخبرته التربوية التطبيقية ولكنه يتضمن – أيضاً– أسساً معرفية ورصيداً من القيم يمكن أن يكون لهما دور في بناء واستشراف للمستقبل التربوي. “فهناك في الموروث التربوي الطاقات والقيم ما يمكن أن يعين في استشراف المستقبل التربوي، وهذا يتطلب من الباحث أن يتعامل مع نصوص تحمل قيم ومضامين يمكن أن تفيدنا في حياتنا التربوية المعاصرة والمستقبلية”[12].

إن الخلاصة المنهجية التي نود أن نوصلها للباحث في ضوء هذه السياحة المعرفية والتأطير لبعض جوانب التعامل مع التراث، هو أن الباحث ليس عليه أن يتبنى موقفًا مسبقًا من التراث جملة كأحد مصادر المعرفة في الفكر الإسلامي سواء بالرفض المطلق أو القبول المطلق كما أننا لا نوفقه على المرحلة أن يتخذ موقفًا وسطًا سلبيًا وهو التردد بينهما، ولكننا ندعوه إلى أن يأخذ موقفًا وسطًا إيجابيًا وهو استلهام ما قدمناه من أطر لبناء التصور الراشد من ناحية، واستلهام ما قدمناه من قواعد للتعامل المنهجي في أن يقوم الباحث من خلال رؤية متوازنة بإبداع منهج “توظيف التراث والاستفادة” منه بحسب مجال تخصصه العلمي، سواء ما يتعلق بتوظيف مناهج النظر أو أدوات المعالجة أو كليات التفسير، والباحث بذلك يتخذ موقف الوسط الحق الذي أشرنا إليه في مقاصد حركته في مقالة سابقة. وبالتالي يقدم لنا طرحًا منهجيًا يخالف المتعارف عليه في العقل المسلم المعاصر وهو إما الرفض المطلق أو القبول المطلق أو التردد والتخوف المنهجي.


[1]على خليل. “منهجية التعامل مع التراث التربوي الإسلامي”، ص109.

[2] على خليل. “نقد المعرفة التربوية”، مرجع سابق، ص27.

[3] سيف عبدالفتاح: “تعقيب على ورقة مبادئ أساسية في تقويم التراث”، في: نحو منهجية علمية للتعامل مع التراث, مرجع سابق، ص 286.

[4] على خليل. أصول الفكر التربوي الحديث بين الاتجاه الإسلامي والاتجاه التغريبي، مرجع سابق، ص103.

[5] سعيد إسماعيل. كيف نتعامل مع الموروث التربوي الإسلامي، مرجع سابق، ص94.

[6] المرجع السابق، ص96.

[7] المرجع السابق،  ص87.

[8] على خليل. “الفكر التربوي الإسلامي”، مرجع سابق, ص75.

[9] سعيد إسماعيل. “كيف نتعامل مع الموروث التربوي الإسلامي”، مرجع سابق،ص90.

[10] المرجع السابق، ص95.

[11]المرجع السابق ، ص93.

 [12] المرجع السابق، ص96.