صدر مؤخرا عن سلسلة “ترجمان” في “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” كتاب “التحريم والتقديس: نشوء الثقافات والدول”، وهو ترجمة أحمد أحمد العربية لكتاب مارفن هاريس بالإنكليزية Cannibals and Kings: The Origins of Cultures.  يمثل هذا الكتاب محاولة لتفسير الأنواع اللامتناهية من السلوك الثقافي التي تبدو محيرة أول وهلة، وكيف تتبنى الثقافات أشكالها المميزة، على أنها تكيفات مع ظروف بيئية معينة وتغير أنماطها. ويقع هذا الكتاب (296 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) في 15 فصلًا.

المؤلف: مارفن هاريس

اشتغل أستاذًا في جامعة كولومبيا منذ عام 1953 ورئيسًا لقسم الأنثروبولوجيا فيها (1963-1966)، ومحاضرًا زائرًا في معظم الكليات والجامعات الكبرى في الولايات المتحدة الأميركية. بحث ميدانيًا الجوانب الثقافية للعلاقات الإثنية والعرقية وآثار الحقبة الكولونيالية ومشكلات نقص النمو من منظور بيئي في البرازيل وموزمبيق والإكوادور، وكان رائدًا في استخدام تقنيات التصوير بالفيديو في دراسته الحياة الأسرية في هذه البلدان. له كتب عدة، منها “نشوء النظرية الأنثروبولوجية: تاريخ النظريات الثقافية”، و”الثقافة، الإنسان والطبيعة: مقدمة في الأنثروبولوجيا العامة”، و”مقدّسات ومحرّمات وحروب: ألغاز الثقافة”، إلى جانب بحوث أنثروبولوجية كثيرة منشورة في دوريات محكّمة.

المترجم: أحمد م. أحمد

شاعر وكاتب ومترجم سوري. صدر له: “جمجمة الوقت” (قصص، 1993)، و”أحرق سفنه إلّا نعشًا” (نصوص، 2013). من ترجماته: “العالم لا ينتهي” لتشارلز سيميك، و”رجل في الظلام” لبول أوستر، و”مع بورخيس” لألبرتو مانغويل، و”مقدّسات ومحرّمات وحروب: ألغاز الثقافة” لمارفن هاريس.

اهتمّ الأنثربولوجي الأميركي مارفن هاريس (1927 – 2001) بتأثير العوامل الديموغرافية وعوامل الإنتاج على النظام الاجتماعي الثقافي، باعتبارها مساهِمةً بشكل أساسي في تحديد الهيكل الاجتماعي للمجتمع وثقافته، وذلك في مجموعة مؤلّفات منها “أبقار، خنازير، حروب، ساحرات: ألغاز الثقافة”، و”لماذا لا يعمل شيء: أنثروبولوجيا الحياة اليومية”، وغيرهما.

ثقافة وطبيعة

في الفصل الأول، من كتاب “التحريم والتقديس: نشوء الثقافات والدول” وبعنوان “الثقافة والطبيعة”، يتساءل مارفن هاريس: لماذا يقوم الناس بحل مشاكلهم الاقتصادية برفع وتيرة الإنتاج؟ ويجيب أنه من الناحية النظرية، فإن الطريقة الأسهل لتحقيق نظام غذائي عالي المردود، وحياة نشطة طويلة خالية من الكدح والتعب، ليست في زيادة الإنتاج، بل في تقليص عدد السكان. وإن حدث لسبب ما شيء خارج عن سيطرة البشر – ولنقلْ إنه تغير مناخي غير مرغوب فيه – انخفضت إثرَه حصة كل فرد من الموارد الطبيعية إلى النصف، “فلن يحتاج الناس إلى محاولة العمل بجهد مضاعف لتعويض النقص. وبدلًا من ذلك، عليهم أن يخفضوا عدد سكانهم إلى النصف، أو – كما يجدر بي القول – قد تمكنوا فعلًا من القيام بذلك حيثما لم يكن في الأمر مشكلة كبيرة لأحد”.

أما في في الفصل الثاني، “القتل في عدن”، فيرى المؤلف أن ليس في مقدور الوسائل الطبيعية لضبط نمو التعداد السكاني شرح التباين بين الكثافات المتدنية والخصوبة المحتمَلة للمرأة. فمعدلات النمو يمكنها أن ترتفع بسهولة. وقد توصلت الجماعات التي تتمتع بالصحة، والتي لها مصلحة في زيادة معدل نموها، إلى ثماني مرات من حمل المرأة الواحدة. يضيف أن لا شك في أن الأمراض كانت موجودة، “لكن كعامل فناء، لا بد من أن هذه الأمراض كانت في العصر الحجري أقل أثرًا مما هي عليه اليوم. فقد تأثر موتُ الأطفال والبالغين بالعدوى الفيروسية والبكتيرية – مثل الزحار والحصبة والسل والسعال الديكي والرشح والحمى القرمزية – إلى حدٍ كبير بنظام الغذاء والصحة العامة للجسم، لذلك يرجح أنه كان للصيادين وجامعي الثمار في العصر الحجري معدلات تعافٍ عالية من إصاباتٍ كهذه”.

عودة إلى الأصل

الفصل الثالث، من كتاب “التحريم والتقديس” جاء بعنوان “أصل الزراعة”، يقول هاريس إن تطور الزراعة لم يتسبب في زيادة عدد السكان، فيرى أن الزراعة ابتُكرت لمواجهة نقص الغذاء الناتج من قتل الثدييات المحلية الكبيرة، خصوصًا في الشرق الأوسط والصين والأميركتين.

في الفصل الرابع، “أصل الحرب”، من كتاب “التحريم والتقديس” يعترف هاريس أن الحرب ربما كانت أقل تواترًا وأقل فتكًا في العصر الحجري القديم. ففي المجتمعات القديمة، كان ثمة حاجة أقل إلى الصراع على الأرض، وإحساس أقل بالهوية المشتركة، ومن ثمّ تقل احتمالية كره الآخر. وربما لا يكون الأفضل وصف الحروب المسجلة بين المجموعات القديمة بأنها حروب بين العصابات، بل هي مجموع المعارك الفردية بين أعضاء العصابات المختلفة الذين يقررون حل نزاعاتهم الفردية بأيديهم.

أما في الفصل الخامس، “البروتينات والشعب العنيف”، فيتحرى هاريس معيشة شعب اليانومامو، من دون أن يدعي أن هناك انخفاضًا فعليًا في حصة البروتين لكل فرد من اليانومامو نتيجة استنزاف الموارد الحيوانية. فمن خلال السير مسافات أطول، وجمع حيوانات أصغر، وجمع الحشرات واليرقات، والاستعاضة عن البروتين الحيواني بالبروتين النباتي، وزيادة معدل قتل الأطفال الإناث (إبطاء معدل النمو السكاني عند الدنو من مرحلة انقسام القرية)، يمكن أن يتجنب الناس أعراضًا سريرية فعلية لنقص البروتين.

التفوق الذكوري

يرى المؤلف في الفصل السادس، “أصل التفوّق الذكوري وعقدة أوديب”، أن ممارسة الحروب هي المسؤولة عن منظومات التفوّق الذكوري لعقدة واسعة الانتشار بين مجتمعات القرية والجماعة. ووجود هذا المركّب هو مصدر ارتباك والتباس لمؤيدي حقوق المرأة. وفي رأيه، يخشى كثير من النساء أنه إذا كان التفوق الذكوري حاضرًا منذ زمن طويل، فربما يكون بالفعل أمرًا طبيعيًا أن يسيطر الرجال على النساء. لكن لا أساس يُعتدّ به لهذه الخشية. فقد نشأت نظم التفوق الذكورية نتيجة الحروب واحتكار الذكور الأسلحة، واستعمال الجنس لتغذية الصفات الذكورية العدوانية. والحرب ليست تعبيرًا عن الطبيعة البشرية، بل استجابة للضغوط البيئية والإنجابية. لذلك، ليس التفوق الذكوري طبيعيًا أكثر من الحرب. ويضيف: “لم تكن عقدة أوديب سبب الحرب؛ بل الحرب هي سبب عقدة أوديب (مع العلم أن الحرب نفسها ليست السبب الأول، بل أمرٌ ثانويٌّ لمحاولة التحكم بالضغوط البيئية والإنجابية)”. إلى ذلك، وبدءًا بعقدة أوديب، لا يمكن المرء أن يفسر التنوع في كثافة الحروب ومجالها؛ لِمَ تنزع بعض الجماعات إلى الحروب أكثر من غيرها، ولم يمارس البعض أشكالًا خارجية من الغزو والآخر يمارس أشكالًا داخلية منه.

في الفصل السابع، “أصل الدول البدائية”، من كتاب “التحريم والتقديس، نشوء الثقافات والدول” يقول المؤلف إن علماء الآثار يميلون إلى الاتفاق على أن هناك على الأقل ثلاثة مراكز لتطور الدولة البدائية، وربما تصل إلى ثمانية. ويظهر أن الصورة الأمثل لفهم قيام الدول البدائية أنها نتيجة لتكثيف الإنتاج الزراعي. إلى ذلك، ما إن تتشكل دول بدائية في منطقة معينة، حتى تبدأ الدول التابعة بالنشوء تحت ظروف متنوعة. وتتشكل بعض الدول التابعة في نوع من الدفاع ضد غزوات السلب التي تقوم بها الدولة المجاورة الأكثر تطورًا، بينما تنشأ أخرى نتيجة محاولات انتزاع السيطرة على طرق تجارية استراتيجية وعلى المقادير المتزايدة من السلع التي تُنقلُ وتُرافق عادة نمو الدول في أي منطقة.

آكلو لحوم البشر

يعود هاريس في كتابه “التحريم والتقديس” في الفصل الثامن، إلى “دول أميركا الوسطى ما قبل كولومبوس“، والنظر في السياق التطوري في وادي تيوتيهواكان ووادي المكسيك خلال الألف سنة، بين عامي 200 و1200، فيقول: “يمكننا أن نتبين ثلاث مراحل واضحة من التكثيف الزراعي يتبعها ثلاثة تحولات في أسلوب الإنتاج: الأولى، تكثيف زراعة الحرق والقطع على التلال؛ الثانية، الري من طريق القنوات التي تغذيها الينابيع؛ الثالثة، إقامة الشينامبا. كانت كل واحدة منها تتضمن نفقات بدء وبناء متزايدة، ولكن كلًا منها كانت تمنح بشكل أساسي سبل الحياة لأعداد سكانية أكبر ودول أكبر وأكثر قوة”. يضيف أن في الألف سنة هذه، ارتفع عدد سكان وادي المكسيك من بضع عشرات من الآلاف إلى مليونَي نسمة، بينما اتسع مجال الحكم السياسي من وادٍ واحد إلى اثنين إلى شبه قارة. ووفق نظرية التطور إلى الأمام والأعلى، كان من المحتم أن يعني ازدياد الإنتاج الزراعي تمتُّعَ الأزتك وجيرانهم بوتيرة متصاعدة بفوائد الحضارة الرفيعة، وهي عبارة لم يتردد الأنثروبولوجيون في تطبيقها عليهم.

أما في الفصل التاسع، “مملكة آكلي لحوم البشر”، فيقول المؤلف إن شعوب الأزتك كانوا يضحون بالبشر بصفة منتظمة، “بقدر ما كان الإسبان وشعوب أوروبية أخرى يقومون أيضًا بشكل منتظم بكسر عظام البشر على المخلعة، واقتلاع الأذرع والأرجل بحبال مربوطة بين خيول، وحرق النساء المتهمات بالسحر على الوتد”.

لكن، لم يحدث في أي مكان آخر من العالم أن شعبًا طور دينًا رسميًا كان فنه وعمارته وطقوسه يسودها العنفُ والموت والمرض بكل معنى الكلمة. كما لم يحدث في أي مكان آخر أن أُعِدّتِ الجدرانُ وساحات المعابد العظيمة والبلاط لمثل هذه العروض التي ركّزتْ على الفكوك والأنياب والأصابع والأظافر والعظام ورؤوس الموت المحملقة الأعين. و يروي هاريس في كتابه “التحريم والتقديس” ويقول “المصدر الرئيس لطعام آلهة الأزتك كان أسرى الحرب، الذين كانوا يجرون على أدراج الأهرامات إلى المعابد، يمسكهم أربعة كهنة، يفردون أيديهم وأرجلهم إلى الخلف على حجر المذبح، ويشقون من جانب من الصدر إلى الآخر بسكين من الزجاج البركاني يتقن استعمالها كاهن خامس. بعد ذلك، كان قلب الضحية – ويوصف عادة أنه لا يزال ينبض – يُنتزع ويحرق قربانًا. ثم يتدحرج الجسد عن أدراج الهرم التي بنيت شاهقة وشديدة الانحدار عمدًا لتلائم هذا الغرض”.

قديمًا أيضًا

في الفصل العاشر، “حَمَلُ الرحمة”، ثمة ما يدفع هاريس إلى الاعتقاد أن أكل لحم البشر “لم يكن له يومًا شأن في الولائم التي يتم فيها التوزيع وسطَ الثقافات التي تسبق مباشرة صعود الدول في بلاد ما بين النهرين ومصر والهند والصين وأوروبا”. كان البشر يُقدمون قرابين طقوسية في مجتمعات ما قبل الدولة المنتشرة عبر أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وفي جنوب شرق آسيا وماليزيا وإندونيسيا وأوقيانوسيا، لكنهم نادرًا ما كانوا يؤكلون. وتؤكد مصادر رومانية يُعتدّ بها – يوليوس قيصر، وتاسيتوس، وبلوتارخوس – أن التضحية بأسرى الحرب كانت أمرًا مألوفًا في أوساط ما يسمى الأمم البربرية على أطراف العالم الروماني – الإغريقي. ويروي هيرودوتس أن أمةً بربرية أخرى ذائعة الصيت من جزّازي الرؤوس، هي السكوثيين، عاشت في الدانوب الأدنى وعلى شواطئ البحر الأسود، كانت تضحي بصفة منتظمة بأسير من كل مئة أسير يأخذونه من ساحة القتال. وفي بلاد ما بين النهرين قديمًا، كان يضحى بالأسرى في المعابد. ويشير نقش من لاغاش دُوِّن حوالى عام 2500 ق. م. إلى الآلاف من جثث الأعداء المكدسة في أكوام ضخمة. وهناك أسرى حرب كان يضحى بهم في الصين القديمة. وكما تظهر القصة في الكتاب المقدس عن إبراهيم وابنه إسحق، من الواضح أن إمكانية التضحية بالبشر كانت كثيرًا ما تجول في ذهن الإسرائيليين القدامى. ويخيل لإبراهيم أنه يسمع الربَ يطلب منه أن يقتل ابنه الذي أنقذه في اللحظة الأخيرة ملاك طيب.

اللحم المحرم

في كتابه “التحريم والتقديس” يرجّح هاريس في الفصل الحادي عشر، “اللحم المحرم”، أن الخنزير كان أول الحيوانات الداجنة التي أصبحت باهظة الثمن من مصادر اللحوم، “ونعلم من العهد القديم أن الإسرائيليين أُمِروا بالامتناع عن أكل لحم الخنزير منذ فجر تاريخهم. وبما أن لحم الماشية والغنم والماعز كان له دور مهم في توزيع ’الوهّاب‘ الإسرائيلي القديم، فإن تحريم استهلاك مصدر ممتاز للحم الحيواني كهذا يبدو عصيًا على الفهم. تظهر آثار خنازير داجنة في قرى العصر النيوليتي في فلسطين وسورية والعراق والأناضول، وهي قديمة قدم آثار الغنم والماعز تقريبًا. علاوة على ذلك، وبعكس كائنات داجنة أخرى، كان الخنزير يدجن من أجل لحمه قبل كل شيء”.

ويقول هاريس، في الفصل الثاني عشر، “أصل البقرة المقدسة”، إن النصوص الفيدية المتأخرة والهندوسية المبكرة تتضمن تناقضات كثيرة في ما يتعلق باستهلاك لحوم الأبقار، “فإلى جانب رسوم عدة للماشية المُعَدة للتضحية هناك مقاطع تدل على أن الأبقار يجب ألا تذبح أبدًا، وأن أكل لحمها يجب أن يحرم بتاتًا”. بعض المصادر الموثوقة تدّعي أن هذه التناقضات يمكن تفسيرها على نحوٍ أفضل بفرضية مفادها أن علماء الهندوس المتعصبين حرّفوا نصوص الامتناع عن أكل لحم البقر، والامتناع عن ذبح البقر في تاريخ متأخر. لكن لحم الأبقار كان الأكثر شيوعًا في الاستهلاك خلال معظم الألفية الأولى قبل الميلاد. لعلّ الحل الأقل جدًّا لهذه التناقضات في النصوص المقدسة أنها كانت تعكس تغيرات تدريجية في المواقف، على مدى فترة طويلة، بدأ الناس خلالها أكثر فأكثر يرون في أكل الحيوانات الداجنة، خصوصًا الأبقار والعجول، أمرًا بغيضًا. يضيف: “يرى الهندوس والغربيون على السواء أن تحريم أكل اللحم في الهند انتصارٌ للأخلاق على الشهية. هذا تحريف خطير للسيرورات الثقافية. فلم تكن النزعة النباتية عند الهندوس انتصارًا للروح على المادة، بل لقوى الإنجاب على الإنتاج. إن السيرورة المادية المشابهة تمامًا التي عززت انتشار الأديان فارغة اليدين في الغرب، وانتهاء التضحية بالحيوان وولائم التوزيع، وتحريم لحم كائنات داجنة مثل الخنزير والحصان والحمار ما دفع الهند بشكل متصلب باتجاه أديان تدين أكل لحوم جميع الحيوانات. لم يحدث هذا لأن روحانية الهند فاقت روحانية مناطق أخرى؛ بل لأن تكثيف الإنتاج في الهند، واستنزاف الموارد الطبيعية وازدياد الكثافة السكانية قد جاوزت حدود النمو في أي مكان آخر من العالم ما قبل الصناعي باستثناء وادي المكسيك”.

في الزراعة المائية

في الفصل الثالث عشر، “المصيدة المائية”، يعتقد هاريس أن الزراعة المائية ما قبل الصناعة أدت بصفة متواترة إلى نشوء سلطات بيروقراطية لإدارة الزراعة، متطرفة في استبدادها؛ لأن التوسع وتكثيف الزراعة المائية – وهي نفسها نتيجة للضغوط الإنجابية – كانت تعتمد على نحوٍ فريد على مشاريع بناء ضخمة، لم يتسن تنفيذها، في غياب الآلات، إلا من خلال جيش من العمال أشبه بالنمل. يقول: “كلما كان النهر أكبر، كانت طاقة إنتاج الغذاء للمنطقة التي يتدفق فيها أكبر. ولكن كلما كان النهر أكبر، كانت مشاكل الاستفادة من طاقاته أكبر. من جهة، كانت الدولة تتولى بناء الشبكات الواسعة من التحويلات والقنوات الرافدة ومصارف الري وبوابات التحكم بتدفق المياه لتأمين وجود كمية كافية من المياه في الوقت المناسب؛ من جهة أخرى، كانت الدولة تتولى بناء السدود، والحواجز ومصارف المياه لتلافي التأثيرات المؤذية الناجمة عن تدفق كمية كبيرة من المياه دفعة واحدة”.

رأسمالية صناعية

في الفصل الرابع عشر، “أصل الرأسمالية“، يقول المؤلف إن عادة تفسيرات انهيار الإقطاع تبدأ بملاحظة أن التجارة والصناعة قد نمتا في القرنين العاشر والحادي عشر، “وأن البحث عن المكاسب حوّل جميع الالتزامات العرفية تجاه الإقطاع إلى علاقات سوق وعرض وطلب”. لكن كما يوضح إيمانويل فالرشتاين، “’يجب عدم الاعتقاد بأن الإقطاع كنظام مناقضٌ للتجارة‘”. كان الأسياد الإقطاعيون يشجعون دائمًا نمو المدن وتطور الحرفيين والتجار المدنيين الذين أمكنهم تسهيل تحول منتجات الأرض الزراعية إلى عدد من السلع والخدمات التي لم تستطع المزرعة تأمينها. لم يكونوا على الإطلاق معارضين أيديولوجيًا للبيع والشراء وجني الأرباح. ما يجب تفسيره، إذًا، هو لِمَ استغرقت المدن والأسواق أكثر من 500 سنة لتبدأ بهدم النظام الإقطاعي. والجواب، في اعتقاده، هو أن المدن والأسواق نمت ببطء، ما دام في استطاعة الرقيق والمزارعين الأحرار المحافظة على مستويات معيشة عالية نسبيًا، من خلال أعمالهم الزراعية التقليدية.

أما في الفصل الخامس عشر والأخير والذي جاء بعنوان “الفقاعة الصناعية”، فيورد هاريس في كتاب “التحريم والتقديس” أنّ كارل ماركس ومصلحين وراديكاليين آخرين اعترضوا على توماس مالتوس وعلماء اقتصاديين آخرين من القرن التاسع عشر ممن أصبح توجسهم معروفًا بـ “العلم الكئيب”، على قاعدة أن الفقر والبؤس اللذين غرق فيهما عمال أوروبا ومزارعوها كانا نتيجة القوانين الخاصة بالاقتصاد السياسي للرأسمالية، وليس نتيجة الوجود الإنساني بعامة. ففي نظر ماركس، جنى الرأسماليون أرباحهم من استغلال العمالة؛ إذ في ظل الرأسمالية كانت الأجور تخفّض إلى حدود الكفاف بغض النظر عما إذا كان عدد السكان في ازدياد أو نقصان. كما شدد ماركس على أن قوانين الرأسمالية تؤدي حتمًا إلى تركز الثروة في أيدي قليل من البلوتوقراطيين وإفقار الجميع. وعلى غرار مالتوس، فشل في التنبؤ بالارتفاع السريع وغير المسبوق لمستويات العيش الذي كان سيحدث بعد فترة وجيزة. لم يدرك مالتوس ولا ماركس – أحدهما مُصادَر بقانون الإنجاب، والآخر مُصادَر بقانون الإنتاج – حقيقة أن الثورة الصناعية كانت تخلق علاقة جديدة كليًا بين الإنتاج والإنجاب. فعلى عكس جميع التحولات الرئيسة السابقة في أساليب الإنتاج، أنتجت الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر تعاظمًا كبيرًا في كفاية العمالة لم يرافقه ازدياد، بل انخفاض في معدل النمو السكاني.