كتاب “الدين والكرامة الإنسانية” لمؤلفه عبد الجبار الرفاعي، الذي صدر في طبعتين (2022 و 2021) عن دار الرافدين في بغداد، تتقاطع في هذه الدراسة تخصصات عدة، فموضوعها المركزي هو الدين، لكنها تناقشه من منظور علم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة وعلم الجمال والأخلاق ، ولكن هذا المنظور يتكئ على المنهج ” العرفاني” في المعرفة الميتافيزيقية من ناحية والمنهج الوضعي في تحليل المظاهر الدينية الحياتية من ناحية ثانية ، واعتمد الكاتب القلب والروح كأسس للايمان بالله بينما ترك للعقل وظيفة تفسير ومعالجة الشأن اليومي الحياتي للفرد.

وبناء على هذه المنهجية نهل الكاتب من قواعد العرفان عند بن عربي وجلال الدين الرومي ومن علم الكلام “الجديد”، وأقصى علم الكلام التقليدي ومناهج التفكير عند طيف فكري واسع يبدأ من ابن تيمية ليصل إلى المودودي وسيد قطب، وفي هذا الإطار وزع الكاتب مهام المعرفة على أدوات ثلاث هي: العلم لمعرفة المادة، والفلسفة واللاهوت لإدراك شيء من أبعاد الميتافيزيقيا، والعرفان لكشف “أشواق الروح وأحوالها واحتياجاتها العميقة لحظة يعلن جوهر الدين عن حضوره المضيء عبر استبصارات العرفاء واشراقات تجاربهم المبهجة.

ذلك يعني أن الدراسة تسير وسط خطين متوازيين هما العقل والقلب، وإذا كانت أدبيات العقل وطبيعته ومناهجه ووظيفته واضحة ومحسوسة بحكم الكم الهائل من أدبياته، فإن المنهج العرفاني يستخدم مفاهيم ما تزال بحاجة إلى استجلاء، فتعبير القلب الذي هو مركز المنهج العرفاني (أو الذوقي أو اللدنّي) يتم تقديمه بلغة “الوجد والاشراق والبهجة” دون تحديد متى يكون الوجد والإشراق والبهجة خارج نطاق “الوهم”، فالنبي إبراهيم قال”رب أرني كيف تحيي الموتى،قال أولم تؤمن، قال بلى ولكن ليطمئن قلبي”(البقرة – 260)،  بينما يقول كاتبنا (صفحة 31 الفقرة الأولى) “مسار القلب غير مسار العقل التساؤلي التشكيكي الذي لا يهدأ، طريق القلب أقصر وأسهل”، لكننا نرى أن “قلب ابراهيم” هو الباحث عن الطمأنينة ليواجه الشك القابع في أعماق قلبه (فهو لم يقل ليطمئن عقلي)، ويبدو لي أن مفهوم القلب والروح (التي هي من أمر ربي) يجري توظيفهما إجرائيا دون تحديد دقيق لمعانيها، فهل هي الإلهام (Inspiration)  أم الحدس(intuition)  أم التخيل(imagination)  أم الوهم ((illusion أم التفكير الرغبي ((wishful thinking) ) وهل كل هذا منفصل عن الذاكرة والخبرة الحياتية بل وعن البنية البيولوجية للفرد…

“اجترار” لأدبيات تيارات التصوف

أعتقد أن الكاتب تعامل مع مفهوم القلب والروح كأنهما مسلمات دون تحديد واضح لمعانيهما مع انهما اعييا كل علماء النفس وأولهم فرويد (وسأعود لهذه النقطة في بند المنهجية).

في الدراسة نزعة أخلاقية إنسانية سامية، ودعوة للحرية والإنسانية والكرامة والمساواة واعتبار الخلاف في الدين والراي أمر طبيعي، وفيها نبذ للتطرف والكراهية ونزعة العدوان والاستبداد الديني والاستبداد السياسي، غير أني لم أجد في الدراسة جديدا أو أنها تشكل نقلة نوعية في أدبيات موضوعها، فهي “اجترار”  لأدبيات أحد تيارات التصوف الديني والتي تعج بها مكتبات العالم وبخاصة العالم الإسلامي، ناهيك عن أن الدراسة منشورة سابقا في جزء كبير من صفحاتها .

الكاتب عبد الجبار الرفاعي
الكاتب عبد الجبار الرفاعي

متن الكتاب 332 صفحة، توزع على ستة فصول ومقدمتين واحدة للطبعة الأولى (2021) وواحدة للطبعة المنقحة الثانية(2022)، ويشير في مقدمته الثانية إلى اعتباره الدين “حياة في أفق المعنى”  تفرضه حاجة الإنسان الوجودية لإنتاج معنى روحي وأخلاقي وجمالي لحياته الفردية والمجتمعية، ويدعو في مقدمته الأولى إلى عدم قراءة النص الديني استنادا للتراث بل للواقع المعاصر  دون القطع الجذري مع التراث.

الإيمان يتكلم لغة واحدة

في الفصل الأول (الإيمان يتكلم لغة واحدة) يرى أن الإيمان هو جوهر الأديان وهو ” ضوء ينبعث داخل الإنسان”، ويرى أن القلب هو الطريق للإيمان وليس العقل التشكيكي الذي يعجز وحده عن الإدراك المباشر لله، وأجمل وأرق لغة يتجلي فيها الإيمان هي لغة القلب، ويعتبر الكاتب أن الموت يشكل لحظة فارقة وتعجز العلوم عن تفسيره خارج الدين الذي يعطي معنى للحياة وللموت.

ويرى أن العلوم المختلفة هامة لتفسير الظاهرة الدينية لكنها لا تكشف لنا الحاجة الوجودية لله لأنها تقف خارج فضاء الميتافيزيقيا، أما العرفان فيكشف أشواق الروح وأحوالها عبر استبصارات العرفاء وإشراقات تجاربهم المبهجة.

ويرى أن الفكر الغربي تجاهل العواطف والمتخيل والأسطورة والذاكرة والتي تساعد على استراحة الإنسان من كآبة الواقع، وهي مهمة ينجزها أيضا الدين والفن. ويرى ان العبادة هي نتيجة الحاجة للصلة بوجود الله ،وهي مشتقة من طبيعة البنى اللاشعورية  للديانة الراسخة في باطن الانسان.

في الفصل الثاني( الحب والأضداد في الطبيعة الإنسانية) يبدأ الكاتب بتناول تعقيد النفس البشرية وتناقضها الداخلي (بين العقل والروح) ساخرا من مفاهيم التنمية البشرية وعلم الطاقة، مطالبا بدراسة علم النفس الإيجابي والذكاء العاطفي(مهارة الاعتراف بالآخر) والتشاؤم الدفاعي، داعيا لتعميق التربية الفنية والجمالية لأنهما أدوات للجم التطرف.

لا دين بلا شكل

في الفصل الثالث (لا دين بلا شكل من أشكال التدين)، ويرى أن الدين لا يموت بل يموت نمط معرفة للدين، كما ان الدين يختلف عن الآيديولوجيا لأنها تفتقد البعد الروحي،كما ينبه إلى ضرورة أن لا يقوم التدين على الخوف، ويحدد أشكال التدين في سبعة هي: التدين العقلاني الاخلاقي(التدين الانساني)، الرحماني(التدين عبر القلب)، الشعبي(العفوي)، الشكلي(القائم على الخوف) ،الشعبوي(القائم على الذرائعية)، المرضي(غطاء لمرض نفسي مثل الوسواس..الخ)  وأخيرا السياسي (تحويل الدين إلى آيديولوجيا).

الكرامة جوهر إنسانية الدين

في الفصل الرابع (الكرامة جوهر انسانية الدين) فبعد استعراض لأصول النزعة الإنسانية تاريخيا، يميز بين نمطين من الحياة :الإمتلاكي (الإستهلاكي) والوجودي (اغتراب الذات عن الوجود الالهي)، وفعل الخير هو ما يبدأ بالانسان وينتهي بالإنسان دون تمييز، ومن هنا ينتقد مفهوم الولاء والبراء الذي يقصي الآخر(اتباع دين آخر) من فعل الخير بتغليب الضمير الديني على الضمير الأخلاقي، داعيا إلى فهم النظام الدلالي في القرآن وعلاقة مفرداته بسياق النظام الدلالي لمعرفة الله في النص القرآني.

في الفصل الخامس (البنية الكلامية والفقهية للاخلاق) ،بعد أن يؤكد على ظاهرة الترابط والتشابك بين المجتمعات ومواجهة المشكلات العالمية معا بخاصة البيئية ونفوق الحيوانات ناهيك عن كورونا، يدعو  إلى مناقشة أخلاقيات العلم ناقدا مفهوم التكفير ومؤيدا للتنوع والتعدد، ثم ينتقل للمشكلات التي يرى أنها ترتبت على “تغليب السُنة على مرجعية القران” بهدف توظيفها لإضفاء المشروعية على السلطة.

الكرامة الإنسانية والاستعباد

وفي الفصل الأخير (الكرامة الإنسانية والاستعباد) يميز بين الإستعباد (القسري) والعبودية الطوعية (الخضوع) والعبودية المقنعة (ممثلا لها ظاهرة الخَدَم)، ويربط بين دور المعلم والتربية في مواجهة عدم الإعتراف بالآخر، وهو أمر تغذية سلطات الاستبداد وثقافتها من وجهة نظره .

نحن أمام دراسة تعتمد المعيارية قاعدة لها، وتتكئ على أساس “القلب والوجدان والإشراق والإلهام والتوهج الروحي” فهي تصف حالة لاشعورية تجعل صاحبها – حسب زعم الدراسة – على صلة مع الله، وهو ما تقف المناهج التقليدية حائرة أمامها، فالعرفاء هم يعيشون هذه الحالة، وعندما ينقلون خبرتهم لغير العرفاء فإنهم يعيدون صياغة  خلجات اللاشعور التي ليس لبعض المتلقين أدواتُ تَلَقٍ لها لأنهم غير مزودين بالتوهج الروحي الذي يطالب به العرفاء.

إيمان النبي إبراهيم

ومن هنا تنبت صعوبة إدراك كيفية بلوغ “العرفان” لأفراد تحجبهم وقائع مادية كثيفة وسميكة عن وهج وإشراق الروح. ولتوضيح هذه الإشكالية في هذا المنهج لنتوقف عند سورة الأنعام (الآية77- 79) في إشارة إلى النبي ابراهيم تقول الآية: ” فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي، فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي، هذا أكبر، فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض.

وهنا نسأل استنادا لمنهج باحثنا : كيف نستدل على أن ايمان ابراهيم الأول (بالقمر) لم يكن وهجا روحانيا، ثم إيمانه الثاني (بالشمس)؟ وكلاهما تبين له أنهما “وَهْمٌ “،ثم ما الذي ميز إيمانه الأخير (للذي فطر السموات والأرض) عن إيمانه الأول وإيمانه الثاني منهجيا، فكيف لنا أن نميز إيمانه الثالث عن إيمانه الثاني وعن إيمانه الأول طالما أنهما بنفس الأدوات، فهل تغيرت أدوات معرفته؟ لقد أعطى الكاتب مفهوم الإيمان- عرفانيا- مكانة مركزية في كتابه، لكني أرى أن الباحث لم يتناول التصورات المخالفة لمنهجية تفكيره، وبخاصة علماء النفس (بحكم طبييعة الموضوع).

مستقبل وهم وعقل مستقيل

فعلى سبيل المثال يرى فرويد في دراسته “مستقبل وهم” أن المؤمنين يطلقون اسم الله على شيء مجرد وغامض خلقوه لأنفسهم لتحقيق هدفين هما: ليساعدهم على مواجهة قسوة الحياة، والرغبة في وجود شخصية أبوية مثالية، ذلك يحعلني لا أطالب كاتبنا بتبني الفرويدية ،بل أرى أن على الأدبيات العرفانية أن تكون اكثر دقة، بل حتى تعبير القلب بقي متأرجحا بين العضو البيولوجي وبين الرغبة الدفينة في مكان غير محدد.

إن هذه المنهجية التي سماها عابد الجابري”العقل المستقيل” فيها بعدان : بعد فيه تعطيل للمسار العقلاني من ناحية ، لكنها من بعد مقابل تكشف حُرقة النفس الإنسانية للخير والسلام والمحبة، فهي دعوة أخلاقية سامية، لكنها ليست الطريق الوحيد للخير والسلام .

في الجانب الأخلاقي من الدراسة، لا أجدها إلا تكرارا لأدبيات واسعة عن التسامح والخير والتقرب لله والعبادة والمساواة والحرية والكرامة والعدالة، ونقد لكل ما خالف ذلك من عبودية وكراهية الآخر والظلم والشر …الخ.

إن المشكلة الرئيسية في المنهج العرفاني الذي قامت عليه دراسة “الدين والكرامة الإنسانية” هي أن وحدة تحليلها (العرفان) مفهوم فيه التباس شديد، ولم تساهم الدراسة في تفكيك هذا الالتباس أو حتى بعضه. ومن الضروري لمثل هذه الأدبيات أن توضح المعنى الدقيق لمصطلح “القلب”، فإن لم يكن العضو البيولوجي هو المقصود فما المقصود به كوحدة تحليل من ناحية وكمنهج معرفة من ناحية ثانية؟ فالعقل يتدرب عبر المعرفة المنطقية والتجريبية على الوعي والفهم للظواهر، فكيف يتدرب” القلب” على الكشف والاستنارة ، وكيف نميز في هذا بين المعرفة ووهم المعرفة؟ يقول كنفوشيوس عن الله :”أنا لا أعرفه..ولكنه يعرفني جيدا .

أرى أن الكاتب تعامل مع  منهج الدراسة على أساس مسلمات يراها يقينية، لكني أعتقد أن فكرة الإلهام والوهج والبصيرة أمور ليست بالوضوح الذي يظنه الكاتب، لاسيما وأنه يعول كثيرا على “خبرة ” “الوهج الإلهي في القلب”، وهو أمر غير متاح للكل، فكيف نجعله متاحا؟ تلك هي المعضلة.


ملاحظة: العناوين الفرعية من وضع موقع “إسلام أون لاين”