يقع متن كتاب “معجم دار السكة في العالم الإسلامي الوسيط” في 255 صفحة، وتضمن مقدمة وتمهيدا ثم الجزء الخاص بمصطلحات مراحل إنتاج النقود مرتبة هجائيا (من الألف إلى الياء)، وأشار الباحث إلى أنه اعتمد في مادته العلمية على أربع مراجع أساسية هي :

أبي محمد الحسنبن أحمد الهمداني(من اليمن) :الجوهرتين العتيقتين الضائعتين من الصفراء والبيضاء، وكتاب منصور بن بعرة الذهبي الكاملي: كشف الأسرار العلمية بدار الضرب المصرية، وكتاب أبو الحسن علي بن يوسف الحكيم : الدوحة المشتبكة في ضوابط دار السكة، وأخيرا كتاب أبو العباس أحمد وهو كتاب الأصداف المنفضة عن علم صنعة الدينار والفضة، وأشار في بداية التمهيد إلى إنتاج المستشرقين حول الموضوعات المختلفة في الحياة الإسلامية.

كتاب “معجم دار السكة في العالم الإسلامي الوسيط” (كما يقول مؤلفه محمد الغضبان) رصد أسماء النقود والمعادن وطرق ومراحل تصفيتها والمصطلحات التقنية والعلمية المستخدمة وتفسيرها وشرح عملها ، واعتمد الباحث في جوهر موضوعه على الكتب الاربعة المشار لها إلى جانب توضيحات وشروح تفصيلية اعتمد فيها على دراسات من الموروث العربي الإسلامي. وأشار إلى بعض التباين في جوانب معينة بين مصادره مثل مكونات ضرب النقود أو طرق تصفية الذهب والفضة ومسميات الموظفين والأعوان من العاملين في هذا القطاع.

ويشرح في تمهيده كيفية الحصول على المعادن وأوزانها الشرعية وغير الشرعية، وذكر مناجم الذهب والفضة والنحاس والرصاص والبرونز، ويتناول تصفية المعادن وجلائها عبر استخدام مواد أولية عديدة، أما أماكن الصهر والجلاء فتتم في الأفران أو التنور أو الأتون أو كوخ الإخلاص، أو الكير…الخ، ثم يشرح طريقة بناء الأفران وأنوعها حسب المعدن الذي “سيطبخ فيها”، وبعضها أفران دائمة واخرى مؤقتة، اما ادوات الطبخ للمعادن فهي كثيرة( صفحة 27) مثل القدر والطبق والمطحن لطحن تراب الذهب المخلوط بالماء والزئبق ثم هناك المنفاخ ثم طرق طبع النقود …الخ، ثم يتناول دار ضرب النقود ومراحل السك من التعدين إلى الصهر والجلاء ثم السك أخيرا ، ويحدد مهمة دار السك في صناعة النقود (دنانير ودراهم وفلوس) ثم تحديد الأعيرة الشرعية ثم ضرب النقود ثم مراقبة الأسواق بخاصة لمنع بيع ما لا يحمل طابع الدار ومراقبة أواني الكيل للمعادن.

ثم يشير الكاتب إلى احتكار الدولة لإنتاج النقد في فترات معينة، بعد ذلك يبدأ المعجم من صفحة 45- 251 مرتبا مفرداته أبجديا، ثم شرح كل مفردة، وفي حالة وجود آلة أو أي مفردة لها دلالة مادية كان يضع صورة (أو رسما لها) مع الإشارة لمراجع مصطلحاته باختصار في التعريف للمرجع.

ثم في نهاية الدراسة قام بوضع ثبت (ما يشبه الفهرس) لكل مفردة في المعجم وصفحة ورودها، وقد أورد الكاتب المفردات ما كان منها عربيا أو بربريا أو من اللهجات العامة أو مأخوذا من الفارسية، وكان يشير في بعض الأحيان (بخاصة عند ورود مفردة من اللهجات الشعبية) إلى المجتمع الذي يستخدم هذه المفردة الشعبية.

وما يلفت الانتباه أن بعض المفردات تتشابك معانيها مع جوانب أخرى لا صلة لها بعالم النقود، فمثلا صفحة 183 هناك مفردة “تغريد” وهي كما نعلم غناء الطير و صوته، لكنها في معجمنا هنا تعني صوت الدينار عندما يلقى على معدن لمعرفة مدى جودة النقد بناء على طبيعة التغريد الذي يسمع عند وقوعه على ذلك المعدن (أي كأنها وسيلة لمعرفة الغش)، ولا يلتزم الكاتب فقط في الجانب اللغوي في معجمه، بل يصف عملية الصنع وجوانبها المختلفة التي ترتبط بالمفردة الصناعية، ولا بد من الإشارة إلى أن عدد مصطلحات المعجم هو 900 (تسعمائة) مفردة.

ويؤكد الكاتب في خاتمته إنه ربما سها عن بعض المفردات، أما لماذا توقف عند القرن السادس عشر في معجمه، فيفسره أنه نتيجة ضعف الدولة اقتصاديا بخاصة موارد الذهب والفضة، ثم تحول دار السكة إلى نظام نقدي جديد مع الدولة العثمانية. ونبه الكاتب أن المفردة قد تختلف في معناها من بيئة لأخرى من البيئات الإسلامية، ووعد الكاتب بتقديم معجم آخر جديد يشمل تونس والجزائر مع احتمال تعاونه مع باحثين آخرين لانجاز هذا المعجم الجديد.

مناقشة الكتاب:

تجمع هذه الدراسة بين ثلاثة فروع علمية هي: علم الآثار(مع التخصص في موضوع سك النقود وصناعة هذه النقود والحلى بشكل رئيسي ) وعلم التاريخ (مع التخصص في فترة العصر الوسيط الإسلامي) وعلم اللغة (المفردات ومعانيها وجذورها وأصول المفردات غير العربية في هذا المجال)، وعمل الباحث على تتبع تأثير الثقافة المحلية على ألفاظ صناعة النقود زمانا (العصر الوسيط) ومكانا ( حيث سادت الدولة الفاطمية والزيرية)، لتنتهي إلى وضع معجم لشرح 900( مفردة قمت باحصائها من خلال تتبع عدد المفردات التي تبدأ بكل حرف من حروف اللغة العربية من الألف إلى الياء) وتراوح عدد المفردات بين الأعلى (حرف الميم ب62 مفردة وحرف الياء بمفردتين فقط).

عند تتبع شروحات الكاتب في معجمه لما يقع من مفردات سك وصناعة النقود والحلي تحت كل حرف من حروف اللغة، يمكن تلمس الحياة اليومية بخاصة من زاوية التطور التقني في هذا المجال، فالبحث يغطي تقنيات (أو أدوات) عمليات التنجيم (البحث عن المعادن بخاصة الذهب والفضة إلى جانب معادن أخرى كالرصاص والنحاس..الخ) ثم أدوات الصهر والتصفية والاخلاط (بخاصة الذهب والفضة) والجلاء ثم السك ومعايير النقد ورسوماته والغش فيه ودور السلطة من ناحية والأفراد من ناحية أخرى في هذه العمليات وبخاصة السك.

ومعلوم أن موضوع النقود في اغلب الفترات التاريخية الإسلامية لا سيما بعد الخليفة عبدالملك بن مروان جرى بحثها في الدراسات المتخصصة في دور ضرب النقود الإسلامية كما هو وارد في الموسوعة العربية العالمية. كما أن نقود الدولة الفاطمية كانت موضع دراسات عديدة مثل دراسة محمد صالح بلعفي (2013) ودراسة سهام محمد المهدي (1993) ودراسة محمد الغضبان (2013)…الخ.

لكن ما يميز هذه الدراسة “معجم دار السكة في العالم الإسلامي الوسيط” هو وضع معجم للنقود في كل مراحل انتاجها وسكها ..الخ، ثم ترتيب المفردات هجائيا مما يسهل العودة لها، ثم وضع مصادر لكل مفردة بعد شرح معناها ، ثم يؤصل المفردات فبعضها من أصل فارسي(مثل رندج صفحة 118) أو لا أصل لها (مثل سرسم صفحة 128) أو عربية (ارتشن صفحة 113).

وقد بحثت في الدراسات والكتب والمعاجم العربية التي توفرت لي والمتخصصة في مختلف الموضوعات من ملابس أو المكاييل والأوزان أو الخطوط أو المصطلح التاريخي أو الفرق والمذاهب أو المؤرخين أو المعارك أو النحو والصرف لكني لم أجد معجما للنقود في مراحل انتاجها وبشكل تفصيلي كهذا الكتاب، أنظر مثلا كتاب النقود الإسلامية وأهميتها في دراسة التاريخ الإسلامي : أو كتاب الدكتور عاطف رمضان :النقود الإسلامية وأهميتها في دراسة التاريخ والحضارة الإسلامية(741 صفحة) والصادر عام 2008 عن دار زهراء الشرق في القاهرة.

وعليه، أرى أن الكتاب جديد في موضوعه من حيث تقديم المفردات بمنهجية معجمية لكل نشاط له صلة باستخراج معادن النقود وصهرها وصقلها ورسومها وأوزانها ونسبة خلائطها بشكل خاص من الذهب والفضة أو مسميات العاملين أو الأدوات المستخدمة، وقراءة المعجم تقدم تقييما عن مستوى التقنيات الصناعية في تلك الفترة التي يغطيها الكتاب والتنظيم الإداري لهذا القطاع الصناعي ناهيك عن جوانب لها علاقة بالتزوير..الخ.

عنوان الدراسة هو “معجم دار السكة في العالم الإسلامي الوسيط”، أي أن الكتاب هو شرح مفردات يقوم عليها موضوع محدد، لذا فهو ليس موضوعا توظف فيه مناهج أو مقتربات العلم التقليدي أو الحديث، لكن الباحث حاول تطوير مفهوم المعجم من خلال التطبيق لا من خلال نظرية معينة، فهو جمع بين منهجية كتابة المعجم التقليدي ومنهجية توسيع دائرة المدلول الاجتماعي للمصطلح، وسار بمنهجية – قد تكون الوصفية هي الأقرب له – على النحو التالي:

  1. ترتيب المفردات ترتيبا هجائيا معتمدا على جذر الكلمة
  2. شرح المفردة استنادا الى معاجم اللغةر(ابن منظور او الفيروزبادي) وإلى المراجع الأربعة التي أشرنا لها في مقدمة عرض الكتاب لكي تكون على شكل دراسة لببيئة المصطلح الزمانية والمكاتية والاجتماعية،
  3. تحديد المراجع (المشار لها) أو الدراسات التي تغطي المعنى للمفردة بشكل متكامل.
  4. إضافة الصور الخاصة بآلات او ادوات الموضوع بخاصة لمنع الخلط بينها وبين غيرها عندما يكون للآلة اكثر من اسم، مثل المطرقة التي تسمى بتك(صفحة 52) وفطيس(صفحة 192) والميقعة(صفحة 232) ثم المطرقة(صفحة 165)، ويحاول توضيح الاصل اللغوي أحيانا أو أن التسمية واحدة ولكن اختلاف الحجم يعطى مفردة جديدة..الخ. كما أن الكتاب يتضمن مفردات معروفة لكنه يحدد علاقتها بصناعة أو سك النقود، فمثلا مفردة زيت(صفحة 124) معروفة لكنه يحددها بدورها في طلي بعض الأوعية التي تسبك فيها المعادن ..الخ.

واعتقد أن الكاتب قدم معجما يضفي حيوية على موضوعه، فهو ليس قاموسا، ولا موسوعة، بل هو يجمع بين الطرفين، كما أنه محدد في موضوع واحد ربط كل مفرداته بهذا الموضوع .

أرى تطابقا كبيرا بين عنوان الدراسة ومحتواها، وتعطي تصورا عن صناعة معينة في زمن معين ومكان معين (الدولة الفاطمية والزيرية) ونظام سياسي (النظام الإسلامي)، مما جعلني أقرب لفهم البعد النقدي (المالي) في دلالات الاقتصاد السياسي في تلك الفترة من التاريخ الاسلامي، بخاصة أن الدراسة تكشف تفاصيل مؤسسات إنتاج النقد في كل مراحلها وبنية إداراتها والاستدلال منها عن تفاصيل سياسية بقراءة ما هو مكتوب على هذه النقود أو تأويل دلالات ما كتب عليها.


عنوان الكتاب “معجم دار السكة في العالم الإسلامي الوسيط”

الكاتب: محمد الغضبان

سنة النشر: 2021- مؤسسة GDL –تونس