الامكانات التي أودعها الخالق -سبحانه وتعالى- في الإنسان عظيمة، وكثير من الناس لا يلتفت إلى مواهبه ولا ينمى حواسه، وربما تركها للصدأ والتقزم والذبول، فقد مُنح العقل الإنساني قدرات جبارة، وهناك فرضية تقول أن الإنسان لا يستخدم سوى 10% من دماغه (1)، أما الباقي فمتروك للاهمال والانطفاء. ومن هنا فتنمية قدرات الإنسان، شيء مهم، ومنها فن الملاحظة. الملاحظة التي تعد أحد مداخل الانتباه والذكاء والعبقرية، وأول خطوة في المنهج العلمي، وواحدة من الأشياء التي منحت البشرية ابتكارات واختراعات ساهمت في ترقيتها.

الملاحظة ليست مجرد رؤية للأشياء فقط، ولكنها عملية عقلية، لها جانب إدراكي من خلال الحواس، وجانب عقلي من خلال المعرفة والوعي والتحليل وإدراك العلاقات، كما أنها ليست عملية انتباه دائم مرهق للعقل والحواس، ولكن انتباه في اللحظة المهمة الحاسمة، ولذلك كان الفيلسوف الشهير “روسو” يقول:”الحكمة الحقيقية ليست معرفة كل شيء، بل معرفة أي الأشياء في الحياة ضرورية، وأيها أقل ضرورة، والتي ليس من الضروري معرفتها تمامًا”.

الملاحظة.. فن

الملاحظة تعني القدرة على استخدام جميع الحواس للتعرف على المحيط وتحليله واسترجاعه، وغالبًا ما ترتبط باليقظة الذهنية، وربما يبدو أمر سهلا ميسورا يمكن القيام به دون مشقة، لكن الحقيقة أن لها متطلبات حتى تؤتي ثمارها، وفي مقدمتها أن يكون الذهن صافيا، غير مشتت ولا مشوش، ولا مرهق من كثرة الضغوط والانشغالات، وغير مُثقل بضغوط الحاجات والمطالب، وأن يمتلك قدرا من المعرفة تؤهله لالتقاط ما يراه في الواقع، ويغوص في أعماقه مستخلصا الفكرة والتغير، وقادرا على النفاذ إلى عمق الحقيقة، وهناك حكمة تقول:”قد يساعدنا ما نعرفه في أحد الموقف، على حل مشكلة أخرى موجودة في موقف آخر مختلف”

التفكير الروتيني المعتاد يعيق القدرة على الملاحظة الجيدة، ويُفوت على الإنسان التقاط الأفكار والتغيرات، وما وراء الأشياء، وربما هذا ما تحدث عنه كتاب “ومضات العبقرية” Sparks of Genius لـ”روت بيرنشتاين”  Root-Bernstein  من أن العبقرية تبدأ بالملاحظة” فالملاحظة تطلب عقلا صافيا، وقوتها ودقتها قد تكون نواة للإلهام والعبقرية.

المعيقات..وكيفية التطوير

-العاطفة من حب أو كراهية، قد تعيق الشخص عن دقة الملاحظة، لأن الشخص في هذه الحالة يرى من داخله، ويرى الواقع كما يحب ويشتهي أن يراه، وهذا يحجب عنه الحقيقة، ويغشى بصره، ومن ثم عقله وقدرته على التحليل وفهم وإدراك العلاقات بين الأشياء، فالعاطفة حجاب، ونظارة تلون الواقع بلونها.

-الضوضاء والتشويش يعيق الإنسان عن الملاحظة الجيدة، فقدرات الإنسان الذهنية، وصفائها يحتاج إلى أن تكف الضوضاء عن إلهاء الإنسان والشغب على حواسه.

-الاعتياد يعيق قدرة الإنسان على الملاحظة، فرؤية الإنسان للأشياء نفسها بتكرارية واستدامة، تغلق عينه عن إدارك التغيرات، ومن ثم تذبل قدرة الملاحظة.

من وسائل الملاحظة

-العقل المُستَعِد: فالجميع رأى التفاحة تسقط من على الشجرة، لكن “إسحاق نيوتن” الشاب ذو الثلاثة والعشرين، هو الذي لاحظ أنها لا ترتفع إلى أعلى، ومن ثم كان اكتشاف الجاذبية الأرضية، فالعقل الجاهز المُستَعِد، هو الذي يستطيع أن يمسك بالفكرة ، ويمكن تدريب العقل والوعي على فن الملاحظة، من خلال تنمية ملكة التساؤل والاستفسار والفضول المعرفي، ومع مرور الوقت تتحول الملاحظة إلى عملية شبه آلية، فالملاحظة هي أم الاختراع، فـ”لويس باستير”، أهم مؤسسي علم الأحياء الدقيقة (2) في الطب، والذي تنسب إليه طريقة البسترة، من خلال الملاحظة توصل إلى البسترة كطريقة للقصاء على الميكروبات من خلال التسخين والتبريد، لذلك قال: “الصدفة تفضل العقل الجاهز فقط”، أي أن القدرة على الملاحظة ستمنح أسرارها إلى العقل الجاهز فقط لاقتناصها، يقول رائد جراحة الأعصاب ” ويلفريد تروتر”  Wilfred Trotter : “المعرفة تأتي من ملاحظة التشابه والتكرار في الأحداث التي تقع حولنا”.

اكتشاف البنسلين، الذي أحدث ثورة في عالم الطب، جاء من خلال الملاحظة التي قام بها ” ألكسندر فليمنج ”  والذي أنتج أول مضاد حيوي في العالم، لكن تلك الملاحظة التي التقطها “فليمنج” كان خلفها عقل مستعد، فقد كان باحثا نابها أمضى سنوات من حياته في البحث عن العوامل الطبيعية المضادة للبكتريا، وكان ذهنه متقدا في المجال، لذا عندما رأى تأثير المضادات على الفطريات، أمسك بالملاحظة وحولها إلى معرفة استفادت منها البشرية، وكذلك “شامبليون”  الذي فك رموز حجر رشيد في سبتمبر 1822، وأتاح معرفة رموز الكتابة الهيروغليفية المصرية، والتي كان يُنظر إليها على أنها نوع من الرسوم، وليست أبجدية، وكانت الملاحظة هي مفتاح النفاذ لمعرفة الأبجدية الهيروغليفية، حيث كان حجر رشيد مكتوب بثلاث لغات، منها الهيروغليفية، كان عمر “شامبليون” وقتها 31 عاما، ويقن أكثر من 12 لغة، وحصل على الدكتوراه وهو في العشرين من عمره.

القرآن الكريم والملاحظة: القرآن الكريم أشار إلى الملاحظة وأهميتها في أكثر من موضع، فمن ذلك قول تعالى” فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ “(3)، وفي قوله تعالى :” ” وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ  وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ”(4)

فملاحظة نبرة صوتهم، وانحرافهم بالقول عن مقاصده وغاياته، لا يتم من الا خلال الملاحظة، التي يستتبعها تحليل عميق يقود إلى اكتشاف هؤلاء المنافقين، وفي قوله تعالى:” لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا “(5)

يقول الشيخ محمد عبده في تفسير المنار: ” السيما لا تتعين بهيأة خاصة لاختلافها باختلاف الأشخاص والأحوال، وإنما تترك إلى فراسة المؤمن الذي يتحرى بالإنفاق أهل الاستحقاق، فصاحب الحاجة لا يخفى على المتفرس مهما تستر وتعفف، فكم من سائل يأتيك رث الثياب خاشع الطرف والصوت، تعرف من سيماه أنه يسأل تكثرا وهو غني، وكم من رجل يقابلك بطلاقة وجه وحسن بزة فتحكم بالفراسة في لحن قوله، ومعارف وجهه أنه مسكين عزيز النفس.


هوامش

1- لم يثبت صحة تلك الفرضية حتى الآن، وهناك شكوك حول صحتها، لكن لها أبعاد نفسية تحفيزية، وهي فرضية تسمى “نظرية الطاقة الاحتياطية” وضعها عالمين للنفس في جامعة هارفارد، هما “وليم جيمس” و”بوريس سيديس”  في نهاية القرن التاسع عشر ، وكررها آخرون، وهي تفترض أن  الناس لا تستخدم سوى جزء بسيط من إمكاناتهم العقلية الكاملة، والمعروف أن الدماغ يستخدم ما يقرب من 20٪ من طاقة الجسم، رغم كتلته لا تتعدى الـ 20٪ من إجمالي كتلة الجسم.

2- عندما تأثرت صناعة الحرير في أوروبا بسب الأمراض التي كانت تصيب دودة القز، كان الرأى السائد هو أن الأزمة تكمن في خلل داخلي في الدودة ، لكن “باستور” لاحظ أن الميكروبات تسببت في مرض بيض دودة القز الصحي، واستخلص من تلك الملاحظة أن القضاء على الميكروب سيضمن الحفاظ على دودة والقز وانقاذ صناعة الحرير.

3- سورة آل عمران الآية 52

4- سورة محمد الآية 30

5- سوة البقرة الآية 273