تعتمدُ الإسرائيلياتُ أساسا على حَمل كلام الله ما لا يحتمل من حيث المفاهيم والمعاني ، وذلك باختلاف قِصص وخرافات مصدرها الكتاب المقدس ، وإسقاطها في تفسير آيات القرآن الكريم .

وقد بلغت خطورتُها أن أضحت ملازمة لشرح معاني القرآن الكريم لا تنفك عنه ، حتى لا تكاد تخلو أمهاتُ كُتب التّفسير منها . وقد حذّر الشيخُ محمد الغزالي من عظيم جرمها وجسامة خطرها في محاضراته لنا في مادة التفسير بجامعة الأمير عبدالقادر بقسنطينة ، وكان يُردِّد دائما بأنّه سيمنح درجةَ الدكتوراه لمن يُنقح كتاب التفسير لابن كثير من الإسرائيليات ، وهذا بلا شك للدّور الخطير الذي أضحت بعضُ الأفكار الإسرائيلية تبثّه في العقيدة الإسلامية ، وقد أماط اللثام الشيخُ محمد حسين الذهبي عن أخطارها بقوله : «غير أنّ القرآن على صفائه ونقائه ، والسنّة على سلامتها وصحتها لم يسلما من عبث العابثين ، فإذا القرآن وقد تسربت إليه أفهامٌ سقيمةٌ ، وشرح الكثير من نصوصه بما لا يتفق والغرض الذي نزل من أجله… وكان الدافع لهذا كله أغراض سيئة ، وأحقاد ملأت قلوب الحاقدين على الإسلام والمسلمين »[1].

مما لاشك فيه أنَّ البدايات الأولى للإسرائيليات نشأت في بيئة إسلامية ، قد تردَّت في حمأة الفتنة والشقاق، فقد ضَعفت هيبةُ الخلافة، واشتغل المسلمون بالفتن الداخلية، فغفلت بذلك عينُ الرقيب، مما كان منفذا للأفكار والعقائد اليهودية إلى تفسير القرآن الكريم[2].

أسهمت الإسرائيليات بقسط وافر في محاولاتها لزعزعة قدسية القرآن الكريم على أكثر من صعيد.

المثير للدّهشة أن نعثر على روايات لبعض الثقاة من الأقدمين -إن صحت نسبتها إليهم- مستقاة من التوراة ، تتصادم جملة وتفصيلا مع قدسية القرآن الكريم

أولا : أفلحت الإسرائيليات في أن تجعل من المسلمين أنفسهم يتلهفون لنقل أخبار التوراة ، وأحيانا يقدمون هذه المرويات عن أخبار القرآن الكريم ، أو في أقل القليل يقابلون النص القرآني الذي يرونه مجملا أو مبهما بالنص التوراتي الذي يعتبرونه مفصلا صحيحا أصيلا . ويتبعون في ذلك السياق التوراتي في كل ما هو مشترك بين المصدرين . سواء تعلق الأمر بقصة الخليقة أم تاريخ الأنبياء والرسل[3].

تبعا لذلك، بدا القرآن وكأنه يفتقد إلى المنهجية المستقلة ، حين يتعرض لهذه القضايا، مما حدا بالباحث حسن يوسف الأطير أن يصرح بقوله: « تخلف القرآن وتقدمت أساطير التوراة »[4]. وكلُّ هذا مهّد السبيل للتشكيك في خصوبة وثراء القرآن من قبل المستشرقين ، ولذلك يَبثون إيحاء ظالما بأن النص القرآني أخذ من المفسرين أكثر مما أعطاهم ، لأنهم أقبلوا عليه وبحوزتهم عقائد وأفكار خاصة ، حاولوا تطويع النص القرآني لها ، ذلك كل محصول المسلمين من تفسيرهم في زعمهم[5].

ثانيا : عمدت الإسرائيليات إلى الإعلاء من شأن التوراة، باعتبارها الأصل الأول للكتب المقدسة، وانعكس ذلك إيجابا على مكانة اليهود ، فقد بلغ شأنُ من أسلم منهم أن استهوت المسلمين تفسيراتُهم وتعليقاتُهم . والمثير للدّهشة أن نعثر على روايات لبعض الثقاة من الأقدمين -إن صحت نسبتها إليهم- مستقاة من التوراة ، تتصادم جملة وتفصيلا مع قدسية القرآن الكريم . ومن أمثلة ذلك تفسير قوله تعالى: ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ () رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ () فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ () فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾[6].

فقد روى كثيرٌ من المفسرين أشهرهم ابن جرير الطبري ، والسيوطي في هذا روايات كثيرة ، أن الذبيح هو إسحاق وليس إسماعيل . ولم يقتصر الأمر على المأثور عن الصحابة والتابعين، بل رفعوا ذلك زورا إلى رسول الله [7]. وليس لنا مجال لنقض هذه الفرية ، فقد قتلها العلماء بحثا ، ونستدل بما ذكره أشهرُ المحققين المعاصرين في الإسرائيليات، الأستاذ أبو شهبة حين قال : «إن المرويات في أنّ الذبيح إسحاق هي من إسرائيليات أهل الكتاب، وقد نقلها من أسلم منهم، ككعب الأحبار، وحملها عنهم بعض الصحابة والتابعين تحسينا للظن بهم، فذهبوا إلى أن الذبيح إسحاق، وما من كتاب من كتب التفسير والسير والتواريخ إلا ويذكر فيه الخلاف بين السلف في هذا. إلا أن منهم من يعقب ببيان وجه الحق في هذا، ومنهم من لا يعقب اقتناعا أو تسليما بها»[8].

إنّ هدفَ اليهود من هذا الافتراء يكمن في تلك العداوة المتجذرة من قديم الزمان للنبي العربي ، وحتى لا تنتقل النبوة إلى محمد وإلى الجنس العربي ، وما يُصاحب ذلك من تلاشي أسطورة شعب الله المختار . والحقيقة أنّ الذبيح هو إسماعيل عليه السلام ، وهو الرأي المشهور عند العرب قبل البعثة ، نقلوه بالتواتر جيلا عن جيل ، بل هو ما أومأت إليه التوراة نفسها .

ثالثا : أدّت خرافات بني إسرائيل إلى صَرف النّاس عن جوهر القرآن ، بالتدبر في آياته ، والانتفاع بعطائه وعظاته ، وكست القرآن برداء من الأسطورة والخرافة ؛ ليبدو متعارضا في ذلك مع بديهيات العقول ، فتزعزع بذلك مكانته في نفوس أتباعه . ومع أنه لا خلاف عند الباحثين المسلمين أن بعض أسانيدها صحيحة أو حسنة إلى بعض الصحابة أو التابعين ، ولكن مصدرها باتفاق هو من إسرائيليات اليهود ، ومروياتهم . ولذلك نتفق مع أبي شهبة في قوله : «وإن كونها صحيحة في نسبتها لا ينافي كونها باطلة في ذاتها ، ولو أن الانتصار لمثل هذه الأباطيل يترتب عليه فائدة ما ، لغضضنا الطرف عن مثل ذلك ، ولما بذلنا غاية الجهد في التنبيه إلى بطلانها ، ولكنها فتحت على المسلمين باب شر كبير، يجب أن يغلق»[9].

ومن أمثلة ذلك ما يحكى عن صفة آدم عليه السلام، من أن رأسه كان يبلغ السحاب فاعتراه لذلك صلع ، ولما هبط على الأرض بكى على الجنة ، حتى بلغت دموعه البحر وجرت فيها السفن[10].

والكلام عن لون كلب أهل الكهف ووصفه . وعن عصا موسى من أيِّ شجرة خُلقت . وعن طول سفينة نوح واتساعها ، وأسماء الحيوانات التي حملت فيها . وغير ذلك مما طواه القرآن الكريم ، وسكت عنه رحمة بنا ،  فهو مضيعة للوقت ، وتبديد للجهد فيما لا فائدة تُرجى من معرفته .

رابعا : عمدت الإسرائيليات إلى الآيات القرآنية التي تتحدث عن صفات الله وأحاطتها بهالة من التشبيه والتجسيم لله سبحانه وتعالى ، ووصفه بما لا يليق بجلاله . وهذا كله مبثوث في كتب التفسير ، والغريب في ذلك أننا نعثر على بعض عقائد اليهود والنصارى قد وجدت لها مكانا في ذلك .

وسنقتصر على ذكر مثال واحد لنبين فيه مدى انزلاق بعض المفسرين في النّقل عن عقائد النصارى وترديدها كتعاليم إسلامية صحيحة.

ذكر الطبري في تفسيره لسورة آل عمران بسنده “عن عكرمة عن ابن عباس، قوله: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾، قال : “عيسى بن مريم، هو الكلمة من الله اسمه المسيح”[11].

الكلام عن لون كلب أهل الكهف ووصفه . وعن عصا موسى من أيِّ شجرة خُلقت . وعن طول سفينة نوح واتساعها ، وأسماء الحيوانات التي حملت فيها . وغير ذلك مما طواه القرآن الكريم ، وسكت عنه رحمة بنا ، فهو مضيعة للوقت ، وتبديد للجهد فيما لا فائدة تُرجى من معرفته

وروى بسند آخر عن محمد بن سعد بسنده عن ابن عباس: ﴿أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ قال : الكلمة التي صدق بها عيسى ، وكرر الطبري نفس الرواية مرة أخرى ، وروى ابن عباس أنه قال : الكلمة هي عيسى” [12].

تتضمن هذه النصوص مزلقا خطيرا يتمثل في استخدام لفظ كلمة معرف بالألف واللام ، فقال: الكلمة، وهو ما لم ينص عليه القرآن بمثل ذلك. ولا يجوز لمسلم أن يستخدم هذا اللفظ معرفا بشأن المسيح، أو أي مخلوق آخر، لأن التّعريف يعني التعيين والتحديد ، وتصبح الصفة مقصودة عليه مختصة به .

وما وقع فيه بعض الأقدمين من مزلق بدون تمحيص في تعريف تلك الكلمة اتخذ ذريعة للمسيحيين بأن القرآن يصرح بألوهية المسيح ويثبتها . فتعريف هذا اللّفظ مع استخدامه بصيغة التذكير يوافق عقيدتهم تماما في ادعاء الألوهية له، بناء على أول فقرة نص عليها إنجيل يوحنا “في البدء كان الكلمة، وكان الكلمة عند الله، وكان الكلمة الله”[13].

فالتعريف والتذكير واضحان صريحان، وهما شرط الاعتقاد بالألوهية له .

ولتأكيد تلك الدعوة نجد الحديث عن سجود يحي عليه السلام للمسيح عليه السلام ، فقد روى الطبري بسنده إلى جريج وابن عباس، في تفسير قوله تعالى: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ قال : “كان عيسى ويحي ابن خالة، وكانت أم يحي تقول لمريم ، إني أجد الذي في بطني سيسجد الذي في بطنك ، لذلك تصديقه بعيسى ، سجوده في بطن أمه له ، وهو أول من صدق بعيسى ، وكلمة عيسى ، ويحي أكبر من عيسى”[14].

و هذا التعبير شنيع وباطل بلا ريب لا يقر به الإسلام ، فهو أقرب لقدسية عيسى عليه السلام ، وللتذكير فإن أصل هذه المقالة وارد في إنجيل لوقا .

وهذا النص وغيره من مرويات إسرائيلية في كتب التفسير يكشف – إن صح السند- عن الأخذ عن المصادر اليهودية المسيحية على عواهنها دون تمحيص وتدقيق .

إنّ أغلب الإسرائيليات المبثوثة في أمهات كتب التفسير خطرها عظيم وشرها مستطير، فيما تثير من بلبلة حول قدسية القرآن الكريم، بما تضمنته من أباطيل وخرافات، نُسب الكثير منها إلى الرسول وإلى أصحابه رضي الله عنهم ، لقد تكدست مادةٌ غزيرةٌ من النّصوص التوراتية، والرّوايات اليهودية، وترسبت داخل كتب التفسير منذ القِدم، ولا زالت أمهات كتب التفسير لم تتخلص منها بعد .

وقد بلغت الخطورةُ ذروتَها في هذا الشأن حين يدق ناقوسَ الخطر شيخُ الأزهر الذهبي فيقول: «لا أكون مبالغا ولا متجاوزا حد الصّدق إن قلت: إنَّ كُتب التّفسير كلّها قد انزلق مؤلفوها إلى ذكر بعض الإسرائيليات، وإن كان ذلك يتفاوت قلة وكثرة، وتعقيبا عليها وسكوتا» [15].

إذا كان للإسرائيليات هذا الدّور الخطير ، فإنها تُطرح علينا جملة من التساؤلات تتمثل في كيفية تسرب هذه الإسرائيليات إلى القرآن الكريم ؟

لماذا كان التّردد على أحبار اليهود لمعرفة أسرار بعض الآيات القرآنية ؟

ما هو حجم مسؤولية من أسلم من اليهود في ترويج هذه الإسرائيليات ؟

ولماذا رُفعت إلى الرسول ؟

وما مدى صحة نسبتها إلى كعب الأحبار ؟ ووهب بن منبه ؟

اضطربت الآراء الإسلامية في الإجابة عن هذه الأسئلة ؛ لاختلاف زوايا البحث حولها . وأغلبَ الآراء تكاد تُجمع على هذه الحقائق الآتية :

تحاشى كثيرٌ من التّابعين وعلماءُ الحديث الرِّواية عن بعض الصحابة الذين اشتهروا بترديد مرويات أهل الكتاب .

– انزلقت كتبُ التّفسير المتعددة بما جمعته من إسرائيليات حتى لا يكاد يخلو منها كتاب تفسير .

– تقمصت هذه الإسرائيليات أفكارا يهودية نفذت إلى الفكر الإسلامي بخطة إسرائيلية ماكرة عملت على تلويث هذا الفكر . وإن اختلف العلماءُ في تعديل وجرح رواتها. وذلك طبقا لاختلافهم حول مدى صحة ثبوت ونسبة هذه الروايات إلى أصحابها، إلا أنّ هناك شبه إجماع على أن أقوال الصحابة في التفسير هذا حكم المرفوع إلى النبي وإن وضعوا لذلك شرطين متلازمين :

الأول : أن يكون مما لا مجال للرأي فيه، كأسباب النزول، وأحوال يوم القيامة، ونحوها .

الثاني : أن لا يكون الصحابي معروفا بالأخذ عن أهل الكتاب الذين أسلموا، أي غير معروف برواية الإسرائيليات [16].

وتبعا لما سبق، تحاشى كثيرٌ من التّابعين وعلماءُ الحديث الرِّواية عن بعض الصحابة الذين اشتهروا بترديد مرويات أهل الكتاب .

ومن أدلة ذلك شهادة أبي هريرة لعبد الله بن عمرو بن العاص، بأنه كان أكثر مادة في الحديث منه، لأنه كان قارئا كاتبا، وبالمقابل فإن هذه الأفضلية التي أقرَّ بها أبو هريرة للصحابي الجليل، جاءت مرويات عبد الله بن عمرو أقل من مرويات أبي هريرة، والسبب في ذلك أن عبد الله بن عمرو كان بحوزته كتب من أهل الكتاب تبلغ حمل بعيرين، تحصل عليها من موقعة اليرموك، فمن ثم تحاشى بعض الرواة الرواية عنه خشية أن تختلط عليه الروايات [17].

– إن كتب التفسير التي تُعزى إلى الصحابة والتابعين أكثر من أن تُحصى ، ففيها المقبول والمردود ، وقد أضيفت إلى الكثير من هذه الكتب الإسرائيليات التي تحوي على خرافات اليهود وأباطيلهم، تراكمت فيما بينها لتشكل مادة ضخمة ينبغي علينا أولا تمحيصها بمعرفة الصحيح والحسن منها .

– أثارت قضية عدالة وتجريح الذين أسلموا من اليهود أمثال كعب الأحبار، ووهب بن منبه جدلا واسعا احتدم حولها نقاشٌ حادٌ بين العلماء المسلمين، سواء منهم الأقدمين أم المحدثين، إلا أنَّ هناك إجماعا على أنّهم كانوا جسرا عبرت منه أخبار اليهود ومروياتهم في الفكر الإسلامي، ولو أنّ هذه الأخبار نُسبت صراحة إلى هؤلاء لهان الأمر، لأنها تعزو ذلك إلى التوراة، لكن خطورتها تكمن في أن أكثرها ينسب إلى الصحابة. والأخطر من ذلك كله أن تلحق مباشرة بالرسول .

وتبعا لهذه الخطورة وما تحمله من معتقدات فاسدة نميل إلى رأي أشهر المحققين المتأخرين بداية من ابن خلدون [18]، مرورا بالشيخ رشيد رضا [19]، ونهاية بالشيخ الذهبي، وأنه آن الأوان لتنقية تراثنا من هذه الأدران لخلوها من أية فائدة تذكر، ووجدنا من بين العلماء المتأخرين من يرى أن من الخير للمفسر أن يتحاشى الروايات الإسرائيلية ويجنب بذلك كتاب الله هذا الذي لا نعرف إن كان صدقا أو كذبا، وحتى وإن استند البعض إلى حديث رسول الله في جواز رواية أخبار بني إسرائيل ، فإن ذلك مرده الاستشهاد وليس الاعتقاد .

الإسرائيليات نُسبت إلى الصحابة الذي أسلموا ، وقد يكون سببُ ذلك للعلم بما فيها من غرائب وعجائب ، ولم يلفتوا الانتباه إلى بطلانها اعتمادا على تجلي ذلك فيها . ويمكن أن يكونوا قد أشاروا إلى كذبها وعدم صحتها ، ولكن الرواة لم ينقلوا هذا عنهم

وإن جَهِد ابنُ خلدون في العثور على أعذار للأقدمين في تناول هذه الإسرائيليات ، باعتبار أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية فاستهوتهم هذه المرويات وتشوفوا إلى معرفة قصة الخليقة[20]  وكنه الوجود ، فكانوا يسألون عنها أهل الكتاب، لإشباع نهمهم الفكري. أما في عصرنا هذا فالحال يختلف ولا عذر للمسلمين في ذلك، بعد أن كشفت دسائسهم من جهة، وكذلك إذ علمنا بأن عددا هائلا من هذه المرويات لم تنص عليه الكتب المقدسة، التي أضحت في متناول الجميع من جهة أخرى .

هذه هي جوانب الخطورة على قدسية القرآن الكريم وعقائد المسلمين من رواية الإسرائيليات ، وإن كان أعظمُها على الإطلاق هو ارتباطها الوثيق بالتفسير. إن أغلب كتب التفسير سواء ما كان بالمأثور حرفا، أو غلب عليه المأثور، أو كان بالرأي أو الاجتهاد، لم تكد تخلو جميعها من الإسرائيليات الملفقة .

وقد كان أبو إسحاق النظام يقول : «لا تسترسلوا إلى كثير من المفسرين، وإن نصبوا أنفسهم للعامة، وأجابوا على كل مسألة، فإن الكثير منهم يقول بغير رواية على غير أساس، وكلما كان المفسر أغرب عندهم كان أحب إليهم» [21].

إننا نتفق مع أبي شهبة في نقده لمقولات كعب الأحبار وغيره، لأنها من الإسرائيليات التي معظمها مبدل أو محرف، ولا حاجة للمسلمين مع خبر الله تعالى ورسوله إلى شيء من هذا بالجملة ، فإنه دخل فيها على الناس شر كبير وجر عليهم البلاء [22] .

خلاصة القول إن الإسرائيليات نُسبت إلى الصحابة الذي أسلموا ، وقد يكون سببُ ذلك للعلم بما فيها من غرائب وعجائب ، ولم يلفتوا الانتباه إلى بطلانها اعتمادا على تجلي ذلك فيها . ويمكن أن يكونوا قد أشاروا إلى كذبها وعدم صحتها ، ولكن الرواة لم ينقلوا هذا عنهم . والغالب أنها قد تكون مدسوسة على الصحابة من قبل اليهود .

وأما ما يحتمل الصدق والكذب منها وليس فيه ما يتعارض مع النقل المتواتر الصريح أو بديهيات العقول ، فأوردوه بما فهموه من الإذن لهم في روايتها . وهذا النوع أقل خطورة من الأول، ومع هذا فإنه لا فائدة تُذكر من الاشتغال به ؛ لأنه يَحجبُ جمال اللفظ والعبارة والإيقاع للقرآن الكريم وما ينبغي أن يكون عليه تفسيره .


المراجع :

[1] الإسرائيليات في التفسير والحديث، (القاهرة: مكتبة وهبة، ط4، 1990م) ص564.

[2] علي سامي النشار، نشأة الفكر الفلسفي، ج1، ص212.

[3] الطبري، التفسير، ج3، ص30.

[4] البدايات الأولى للإسرائيليات في الإسلام، (القاهرة: مكتبة الزهراء، ط1، 1412هـ/1991م) ص7.

[5] وهذا يتجلى تماما من عنوان كتاب “مذاهب التفسير الإسلامي” للمستشرق جولدزيهر، الذي أجهد نفسه في كتابه بالكشف عن تمزق مزعوم للنص القرآني.

انظر: محمد إبراهيم شريف، اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم، (القاهرة: دار التراث، ط1، 1982م) ص72، 73.

[6] سورة الصافات، آيات 99-113.

[7] الطبري، التفسير، ج3، ص54.

– السيوطي، الدر المنثور، ج4، ص281، 282.

[8] الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، (القاهرة: الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية ، 1393هـ/1973م) ص353، 356.

[9] المرجع نفسه، ص230.

[10] المرجع نفسه، ص130.

[11] المصدر نفسه، ج4، ص172.

[12] المصدر نفسه.

[13] إنجيل يوحنا، الإصحاح 1، فقرة 1.

[14] انظر بالتفصيل: الطبري، التفسير، ج4، ص172.

[15]  محمد حسين الذهبي، الإسرائيليات في التفسير والحديث، ص95.

[16] أبو شهبة، الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، ص79، نقلا عن ابن حجر، نزهة النظر شرح نخبة الفكر، ص43.

[17] المرجع نفسه، ص80.

[18] ابن خلدون، المقدمة، (بيروت: دائر الرائد العربي، ط5، 1402هـ/1982م) ص439، 440.

[19] رشيد رضا، تفسير المنار، (بيروت: دار المعرفة، ط، د.ت) ج1، ص9.

[20] ابن خلدون، المقدمة، ص439، 440.

[21] الجاحظ، الحيوان، ج1، ص343.

[22] الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، ص148.