ما أكثر الأشياء التي لفتت أزمة كورونا أنظارنا إليها، أو جددت شعورنا بها.. حتى لكأن هذه الأزمةَ “المحراثُ” الذي يقلّب به الزارع أرضه قبل أن يبذر فيها بذور الموسم الجديد؛ فهو يقلّب التربة، ويعرّض طبقاتها الدفينة لأشعة الشمس والهواء المتجدد.. كذلك قلّبت “كورونا” حياتنا، وتغلغل تأثيرها إلى مختلف مناحي الحياة!

وقد كانت “المساجد” إحدى الأشياء التي جددت كورونا شعورنا بها، وأوقفتنا على ما تحتله من مكانة في حياتنا..

والناظر في التاريخ الإسلامي يسترعي انتباهه ما للمساجد، ليس فقط من حيث القيمة والرمزية، وإنما أيضًا من حيث الدور والوظيفة.. فالمسجد اقترن دوره بالبناء الإسلامي على مستوى المجتمع والحضارة، فهو أحد الأمور المهمة التي شرع النبي صلى الله عليه وسلم في تنفيذها بمجرد دخوله المدينة المنورة؛ إضافة إلى عقد المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين، وإقامة السوق، وكتابة الوثيقة..

فإذا كانت أمة الإسلام قد وُلدت من بين دفتَيْ القرآن الكريم، فإنها انطلقت في دورها- الاجتماعي والحضاري- من بين جدران المسجد.. فالمسجد كبناءٍ ومحطةِ انطلاق، يأتي موازيًا للقرآن كمنهجٍ ومَصْدرِ ميلاد.. ولا عجب أن كان القرآنُ “كتابَ الله”، والمسجد “بيت الله”..!

المسجد، إذن، ليس بناءً للتزود الروحي فحسب، وإنما أيضًا للتماسك الاجتماعي، وللإشعاع الحضاري.

لقد كان “المسجد الجامع” أولَّ ما يحرص المسلمون على إقامته في الأمصار الجديدة التي ينشئونها.. ثم من حول المسجد تنداح مظاهرُ العمران المختلفة.. ومن قلبه تنفذ أشعة العلم والمعرفة، وصولاً إلى كسرة الخبز وقارورة الدواء؛ أي الأسواق والبيمارستانات.

يقول المفكر الرئيس علي عزت بيجوفيتش عن هذا الدور المتسع المركَّب للمسجد في الحضارة الإسلامية: “وقد نتج عن هذا الاتجاه ظاهرة لا تعرف إلا في إطار الثقافة الإسلامية، وهي ما يمكن أن يُطلق عليه (المسجدرسة)؛ وهو بناء فريد يجمع بين وظيفتَيْ المسجد والمدرسة معًا، ولا يوجد له تسمية موازية في اللغات الأوروبية. هذا البناء المتميز هو المعادل المادي أو التقني لتلك المُسلّمة الإسلامية لوحدة الدين والعلم؛ التي بدأ بها نزول القرآن نفسه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}”([1]).

ويوضح الفرق بين المسجد والكنيسة، قائلاً: يمكن استخلاص نتائج من المقارنة بين المسجد والكنيسة؛ المسجد مكان للناس، أما الكنيسة فهي (معبد الرب). في المسجد يسود جو من العقلانية، وفي الكنيسة جو من الصوفية. المسجد بؤرةُ نشاط دائمٍ وقريبٌ في قلب المناطق المعمورة بالسكان، أما الكنيسة فتبدو أقل التحامًا ببيئتها. يميل التصميم المعماري للكنيسة إلى الصمت والظلام والارتفاع؛ إشارةً إلى (عالم آخر). عندما يدخل الناس إلى كاتدرائية قوطية يتركون خارجها كل اهتمام بالدنيا، كأنهم داخلون إلى عالم آخر؛ أما المسجد فمن المفروض أن يناقش الناس فيه بعد انتهائهم من الصلاة هموم دنياهم. وهذا هو الفرق”([2]).

والمستشرق جرونيباوم يلاحظ هذه الإشارات المهمة عن ترافق دور المسجد مع العمران الإسلامي، فيقول: “كان الإسلام منذ مستهل نشأته في وسط حضري، يستحب عمران المدن وتقدمها. ولو تأملت تشريع القرآن لرأيته يتمثل صورة لحياة المدن؛ فالبدوي ينظر إليه بعين الإرتياب وعدم الثقة… وحيثما حلّ الفاتحون المسلمون أسّسوا المدن (الأمصار)؛ إذ كيف يستطاع تأدية شرائط الدين على وجهها ما لم يكن ذلك في مدينة؛ أي مستقر به مسجد جامع تؤدى فيه صلاة الجمعة، وسوق، (وحمام عام إذا تيسر)”([3]).

إذن، هذه لمحات عن دور المسجد في حضارتنا، بَدْءًا ونهضة.. لكن السؤال المهم: كيف آل هذا الدور؟ وهل تراكم أم تقلص؟

وهنا، نرصد بشيء من الأسف، أن هذا الدور المتسع المركب قد تقلص في حياتنا إلى الحد الأدنى، حتى لم تعد المساجد تفتح أبوابها إلا قبيل الصلاة، وتغلق بعدها مباشرة.. وما لهذا جُعلت المساجد!

لقد جُعلت المساجد:

– للتزود الروحي:

وفيها فُضِّلت الصلاة، ونُدِبَ إلى تدارس كتاب الله: “ومَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، ويتَدَارسُونَه بيْنَهُم؛ إِلاَّ نَزَلتْ علَيهم السَّكِينَة، وغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَة، وَحَفَّتْهُم الملائِكَةُ، وذَكَرهُمْ اللَّه فيِمنْ عِنده” (صحيح مسلم).

– للتماسك الاجتماعي:

حيث يلتقي جيران المسجد خمس مرات.. فكأنهم يتزاورن خمس مرات في اليوم والليلة!

– للعطاء الحضاري:

كما أشرنا؛ حيث مؤسسات العلم نشأت في رحاب المسجد.. قبل أن تنفصل في مؤسسات مستقلة مع توسع العمران.

– للحيوية المجتمعية:

حيث تعد المساجد بيئة حاضنة لميلاد ونمو “المجتمع المدني”، الذي يتفاعل ويتكاتف لفعل الخير من خلال المسجد.. ومازال هذا الدور قائمًا في بعض البلدان؛ فنرى بالمسجد ملحقات للجان الزكاة والصدقات، ورعاية الأيتام والفقراء، وبذل الطعام، وتوفير العيادات الطبية مجانًا أو بأجر رمزي..

فهل يمكن تأدية هذه الأدوار والمساجد تُفتح وتُغلق قبيل الصلاة وبُعيدها..!

ثم جاءت أزمة كورونا، فمنعتنا حتى من هذا الحد الأدنى من دور المساجد.. وبقي فقط الأذان يُرفع، مُبقيًا على “همزة وصل” نسأل الله ألا تنقطع!

نعم، كان قرار إغلاق المساجد مؤقتًا، منعًا من انتشار الفيروس، دالاًّ على عظمة التشريع الإسلامي الذي يولي الإنسان أهمية قصوى، ويجعل الساجد قبل المساجد، ويؤكد أن العبادة لا تنحصر في نطاق محدد؛ وإنما الأرض كلها ميدان للتعبد، وساحة للطاعة..

نعم هذا صحيح.. لكن قرار الإغلاق كان صعبًا على الكثيرين من الناحية النفسية والرمزية؛ إذ منعنا من التواصل مع بيوت الله، ولو في الحد الأدنى لما ينبغي أن يكون عليه تواصلنا معها.. ومع ذلك، فربّ ضارة نافعة؛ إذ جاء هذا المنع ليجدد العاطفة نحو المساجد، وليعيد إلى الأذهان دورها المهم في صياغة المجتمع المسلم روحًا واجتماعًا ونهضة..

والأمل المرجو، أن تكون أزمة كورونا فرصة مناسبة لنراجع علاقتنا بالمسجد، نحو تفعيل دوره في مختلف المجالات؛ حتى يعود نقطة إشعاع روحي واجتماعي وحضاري؛ بما يمثله من رمزية، وما يختزنه من طاقة، وما يحتويه من إمكانات..


([1]) الإسلام بين الشرق والغرب، بيجوفيتش، ص: 296، ترجمة: محمد يوسف عدس.

([2]) المصدر نفسه، ص: 271.

([3]) حضارة الإسلام، جرونيباوم، ص: 223، ترجمة: عبد العزيز توفيق جاويد.