أمر الشارع سبحانه الأمة بضرورة إقامة العدل، والقسط في التحاكم والتناصر والموالاة، وشرط فيه أن يكون عدلا خالصا لا يشوبه شيء من المصلحة أو الهوى أو العاطفة، ورسمه منهاجا لهذه الأمة تحقيقا لخيريتها، فكان من كمال هذه الخيرية أن يناديها بدعوة الإيمان إلى مراعاة هذا الأمر العظيم،  حيث يقول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء: 135]. وقد تضمنت الآية مقصدا عظيما في الشريعة الإسلامية، وهو العدل، فإن بالعدل قامت السماوات والأرض، وعليه تأسست أركان التوحيد الخالص لله تعالى، ويترتب عليه أن يعامل الإنسان خالقه أو ذاته أو غيره من المخلوقات بنظام يناسبهم دون اعتداء أو تطرف، بعبارة جامعة: “أعط كل ذي حق حقه”.

أفصح عن هذه الغاية شيعب أحمد حين استهل كتابه “مقصد العدل عند ابن تيمية” فقال: العدل هو ميزان الخلق أو التكوين والأمر أو التشريع، وهو الحق المقصود الذي يفتقر إليه الوجود بدءاً بعالم الحس والشهادة، وانتهاءً بعالم الغيب والخلود، وهو عالم الحق المنشود. وهو بذلك غاية الفطر السليمة، والعقول الراجحة الصريحة، والشرائع السماوية الصحيحة، والغاية من وجود المكلفين، وهو مقصد القاصدين الراشدين، ومطلب الطالبين المهتدين.

وقد اشتملت الآية المذكورة (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ..) على معان جليلة وحكم عظيمة توضح الطرق التربوية ومنهاج التعامل والتواصل بين أفراد المسلمين أنفسهم، والتعامل مع من سواهم ممن يشتركون معهم في ساحة الإنسانية والبشرية لا سيما في حلب التقاضي والترافع.

وترسم الآية اتجاهات ثابتة موحدة في إقامة العدل بين الناس متجردة من كل العلائق النفسية والأسرية والاجتماعية، فكان العدل المنشود قيامه يتخلص من الميول النفسي والتعاطف مع الأسرة، وإرضاء الغني لثروته أو الفقير للشفقة عليه، وإنما يلزم من هذا العدل أن يكون خالصا لله، محتسبا لوجهه سبحانه. ونتقصى هذه المعاني فيما يأتي:

– أن استعمال كلمة القسط بدل العدل: فإنه يظهر أن القسط على أنه يفيد معنى العدل إلا أنه أخص في دلالته على العدل في الحكم والعدل أعم منه في المعنى، فكان المطلوب قيامه في هذه الآية نوع العدل في الحكم والشهادة، فلا يماري فيه رغبة ورهبة لداعي العاطفة أو العصبية أو المصلحة أو هوى النفس.

– يلزم أن يكون هذا النوع من العدل في الحكم عادة مستقرة عند الإنسان، يواظب عليها، لا يفارقها في حالة دون أخرى، لذلك نبه الله عليه بلفظ (قوامين) ويدل على “أن مراعاة العدالة مرة أو مرتين لا تكفي بل يجب أن تكون على الدوام، فالأمور الدينية لا اعتبار بها ما لم تكن مستمرة دائمة” [تفسير الألوسي: 3/161]. وأن هذه العدالة لا اعتبارا بها  كذلك إذا لم يكن لله تعالى، ابتغاء ثوابه ومخافة عقابه.

– أن العلائق القضائية التي تؤثر في ميزان القضاء بالعدل، وتميل بالحكم الراشد عن المسار الصحيح، تنافي المبالغة في القيام بالقسط لأجل الله، وأن أقصى هذه المبالغة في الشدة والعناية أن يقضي القاضي أو يدلي الشاهد شهادته بحق حتى لو كان يجني من قضائه أو شهادته مضرة أو أذى على ذاته، أو على والديه والأقربين منه، فلا يميل بالحكم أو يجور فيه من أجل إرضاء أهله ونصرة قبيلته، “وكان من عادة العرب أن ينتصروا بمواليهم من القبائل ويدفعوا عنهم ما يكرهونه، ويرون ذلك من إباء الضيم، ويرون ذلك حقا عليهم، ويعدون التقصير في ذلك مسبة وعارا يقضى منه العجب. قال مرة بن عداء الفقسي:

رأيت موالي الألى يخذلونني … على حدثان الدهر إذ يتقلب

ويعدون الاهتمام بالآباء والأبناء في الدرجة الثانية، حتى يقولون في الدعاء: (فذاك أبي وأمي) ، فكانت الآية تبطل هذه الحمية وتبعث المسلمين على الانتصار للحق والدفاع عن المظلوم”. [التحرير والتنوير 6/266].

– أن التجرد في القضاء أو الشهادة يمنع الميول إلى المؤثرات الخارجية التي تتحكم غالبا في إقامة القسط في الحكم مثل مراعاة العاطفة النفسية أو الأسرية، ومراعاة المصلحة الاجتماعية، أو اتباع هوى النفس، فإن الشارع حذر من هذه المؤثرات وندبنا إلى التجرد الخالص في الحكم، فحرم الله العدول عن الحكم بالحق والصدق في الشهادة، أو الامتناع من القضاء ومن أداء الشهادة والمماطلة في الحكم مع ظهور الحق  لهذه الأسباب، يقول الله تعالى: (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)، ورتب على ذلك الوعيد الشديد، فهو الخبير بفاعل السوء، لا يعوزه أن يكشف عن خبيئته، فيعذبه.

وهذه المعاني الجليلة من الآية الكريمة تلزم المسلم أن يتصف بالصدق وتحري الحق فيما ينقله أو يشاركه الناس، ويكون حذرا دقيقا فيما يدلي به من الكلمات والشهادات سواء على شكل خبر أو تقرير أو معلومة، فينقل بحق، ويرجو الإصلاح، ويبتعد عن مؤثرات هوى أو مصلحة أو غرض دنيوي، لاسيما إن كان أمرا مما يوغر الصدور ويفسد العلاقات، ويؤجج نار الفتنة والاختلاف، تنبعث من ذلك نعرات، عصم الله منها المسلمين، وينطبق هذا على الأمة بأسرها، أفرادا وجماعات، إعلاميين وغيرهم، سواء على مستوى الدول أو الأقاليم، وبه يحقق العدل الذي ينشده الشرع

وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا !