شرف الله تعالى أم موسى الله سبحانه وتعالى بأمومة نبيه موسى عليه السلام وجعلها مباركة على قومها حين ولدت لهم من كان سبب إهلاك عدوهم وإنقاذهم من حياة الذل والمهانة التي كانوا يرزحون تحت أغلالها وهي أم لنبيين من الأنبياء، وهما: موسى وهارون، ولقد ابتليت هذه المرأة بموقف من أشد المواقف وأصعبها فثبتت فيه، وظهرت بشخصيتها من خلال الأحداث التي ذكرها الله تعالى في القرآن في سورة القصص فهي:

امرأة مؤمنة بقضاء الله وقدره، مطيعة لأوامر الله تعالى، وموقنة بتحقيق وعد الله، وصابرة على الأحداث التي تعرضت لها، ومتوكلة على الله.

شخصية تقدم لنا درسا مهما في امتثال أمر الله واليقين بوعد الله، فقد سلّمت وليدها للقدرة الإلهية والعناية الربانية وهذا دليل على ثقتها بالله، إذ لولا كمال ثقتها بربها لما ألقت بولدها وفلذة كبدها في تيار الماء تتلاعب به أمواجه وجريانه إلى حين ينتهي أو يقف، ولولا علم الله المسبق وإطاعة أم موسى لأوامره ما أمرها لله عزّ وجل بإلقاء موسى في اليم، ولولا اطمئنان أم موسى لليم ما استسلمت وألقت بولدها فيه.

إن عاطفة أم موسى الإيمانية تدعوها إلى تنفيذ أمر ربها وتأمرها بالتوكل عليه والثقة به، وعاطفة أمومتها الحانية التي تعززت لديها بعد أن أرضعت وليدها تدعوها للتمسك بالطفل ولو ذبح أمامها، فربما كان أهون من إلقائه إلى مصير لا تعلمه، وفي هذا قدمت أم موسى درساً عظيماً في التوكل على الله واليقين بوعده وتعظيم أمره وتقديمه على كل أمر. [الدور التربوي للمرأة في قصة موسى عليه السلام، ص٥٩]

– تبرز عاطفة الأمومة وحنوها على ابنها في شخصية أم موسى عليه السلام بوضوح، فالأمومة من وراء الحمل والولادة والإرضاع قانون روحي تنفرد به الأم دون الأب لتؤدي به النسل، غير غذاء الرحم واللبن وغير وراثة النوع ووراثة ما لأمه من صفات؛ فقانون الأمومة أراده الله سبحانه وتعالى ليتوصل به إلى إنسانية الولد وتجعل صلته بأبويه صادقة في المحبة والتقدير والاحترام والمودة.

وفي عودة موسى إلى أحضان أمه درسٌ مهم في التربية، فلقد أراد المولى عزّ وجل لموسى الكليم عليه السلام أن يتربى في حجر أمه وهي أم صالحة أمينة على ولدها في تربيته تربية إيمانية رشيدة. [الدور التربوي للمرأة في قصة موسى عليه السلام، المرجع السابق، ص٥٩].

إن أم موسى عليه السلام كانت محفوفة بالعناية الربانية والرعاية الإلهية هي وابنها، ولذلك رأت من ألطاف الله ما أثلج صدرها وزاد يقينها ومحبتها لربها واعتمادها عليه، ومن ألطاف الله بها: رجوع موسى إليها وإلى إخوته لينال من برهم وعطفهم بعيداً عن الخوف والفزع، إنها أقدار الله وتدابيره في خلقه.

وقد تكلم الطاهر بن عاشور عن بعض العبر التي تؤخذ من قصة موسى عليه السلام في القرآن الكريم، قال رحمه الله: وموضع العبرة من هذه القصة أنها تتضمن أموراً ذات شأن فيها ذكرى للمؤمنين، وموعظة للمشركين، فأول ذلك وأعظمه: إظهار أن ما علمه الله وقدره هو كائن لا محالة كما دلّ عليه قوله: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ﴾ إلى قوله: ﴿يَحْذَرُونَ﴾، وإن الحذر لا ينجي من القدر.

وثانيه: إظهار أن العلو الحق لله وللمؤمنين وأن علو فرعون لم يغن عنه شيئاً في دفع عواقب الجبروت والفساد ليكون ذلك عبرة لجبابرة المشركين من أهل مكة.

وثالثه: أن تمهيد القصة بعلو فرعون وفساد أعماله مشير إلى أن ذلك هو سبب الانتقام منه والأخذ بناصر المستضعفين ليحذر الجبابرة سوء عاقبة ظلمهم، وليرجو الصابرون على الظلم أن تكون العاقبة لهم.

ورابعه: الإشارة إلى حِكمة: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ في جانب بني إسرائيل ﴿وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ في جانب فرعون، إذ كانوا فرحين باستخدام بني إسرائيل وتدبير قطع نسلهم.

وخامسه: أن إصابة قوم فرعون بغتة من قبل من أملوا منه النفع أشد عبرة للمعتبر، وأوقع حسرة على المستبصر، وأدل على أن انتقام الله يكون أعظم من انتقام العدو كما قال: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ مع قوله: ﴿عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾.

وسادسه: أنه لا يجوز بحكم التعقل أن تستأصل أمة كاملة لتوقع مفسد فيها لعدم التوازن بين المفسدتين، ولأن الإحاطة بأفراد أمة كاملة متعذر فلا يكون المتوقع فساده إلا في الجانب المغفول عنه من الأفراد فتحصل مفسدتان هما: أخذ البريء وانفلات المجرم.

وسابعه: تعليم أن الله بالغٌ أمره بتهيئة الأسباب المفضية إليه، ولو شاء الله لأهلك فرعون ومن معه بحادث سماوي، ولما قدّر لإهلاكهم هذه الصورة المرتبة، ولأنجى موسى وبني إسرائيل إنجاء أسرع ولكنه أراد أن يحصل ذلك بمشاهدة تنقلات الأحوال ابتداء من إلقاء موسى في اليمّ إلى أن رَدّه إلى أمه فتكون في ذلك عبرة للمشركين الذين ﴿قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾]الأنفال:٣٢[،وليتوسموا من بوارق ظهور النبي محمد ()، وانتقال أحوال دعوته في مدارج القوة أن ما وعدهم به واقع بأخرة.

وثامنه: العبرة بأن وجود الصالحين من بين ظهراني المفسدين، فإن وجود امرأة فرعون كان سبباً في صد فرعون عن قتل الطفل مع أنه تحقق أنه إسرائيلي فقالت امرأته: ﴿عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾ كما قدّمنا تفسيره.

وتاسعه: ما في قوله: ﴿وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ من الإيماء إلى تذكير المؤمنين بأن نصرهم حاصل بعد حين، ووعيد المشركين بأن وعيدهم لا مفرّ لهم منه.

وعاشره: ما في قوله: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ من الإشارة إلى أن المرء يؤتى من جهله النظر في أدلة العقل. [تفسير التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٢٠/٨٥-٨٦].


ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: “إبراهيم عليه السلام”، للدكتور علي الصلابي، واعتمد في كثير من مادته على كتاب: “الدور التربوي للمرأة في قصة موسى عليه السلام”، لآيات النعيم الأخروي.

المصادر والمراجع:

قصة موسى في القرآن: دراسة فنية، كلثوم صالح مقابلة.

الدور التربوي للمرأة في قصة موسى عليه السلام، آيات النعيم الأخروي..

تفسير التحرير والتنوير، الطاهر ابن  عاشور.

موسى -عليه السلام- كليم الله عدو المستكبرين وقائد المستضعفين، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2022م.