بشَّر (المسيحُ) في الإنجيل بقرب قدوم أخيهِ في النبوة (مُحمَّــــد) إلى الدنيا، لتُختَم به الرسالات، ويكمل به الدِّين، وتتم به النعمة، وقد حدث بالفعل ما أخبر به السيد المسيح.

كذلك؛ احتفى نبيُّ الرحمة (مُحمَّـــد) بأخيه المسيح، في مناسبات كثيرة، وبصور متعددة، تلفت الانتباه، وتبعث البهجة، فتارة يُقدِّمه بالمدح والثناء، وتارة بذِكر صفاته وأوصافه الخَلْقية، وتارة بذكر مواقفه مع الناس، أوْ ذِكْر مواعظه ووصاياه، وتارة ينافح عنه ويدفع ما لِحق به مِن أذى أوْ بهتان. وبذلك تحقّقتْ بشارة المسيح عن (البارقليط) عندما قال عنه: “ذاك روح الحق؛ الذي سيرشدكم إلى جميع الحق، ويُذكِّركم بكلِّ ما قلته لكم، ذاك يُمجِّدني”.(يوحنا:16).

هذا؛ ولمْ يحدث أنَّ أحداً من المسلمين أنكر شيئاً أوْ كلمةً واحدةً مما جاء في حق المسيح سواء في القرآن الكريم، أوْ فيما ورد من أحاديث النبيّ الشريفة، بلْ احتفى المسلمون بهذا الثناء القرآني، والهدي النبوي، وتقربوا بها إلى الله -سبحانه- في صلواتهم، ومواعظهم.

ولا عجب أن تكون للمسيح مكانة رفيعة، ومنزلة خاصة في قلوب المسلمين، فإلى جانب أنهم يؤمنون بأنه من الخمسة أُولِي العزم من الرسل، وأنه صاحب رسالة سماوية، وأنه معجزة لبني إسرائيل على وجه الخصوص، وإلى العالم كله بصفة العموم؛ يرون فيه –أيضاً- أنه بَشَّر بنبيِّهم، كما ورد في القرآن الكريم ]وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ[[الصف:6].

وقد عَرَضَ القرآنُ الكريم صوراً حية صادقة من قصة السيّد المسيح وحياته في لوحات جميلة مشوِّقة، حتى تكرَّر اسمه في القرآن 38 مرة في صورٍ ومشاهد إعجازية باهرة، تُدهِش الأسماع، وتخطف الأبصار … فلمْ تعهد الدنيا حديثاً أعذب منه، ولا كلاماً أصدق منه.

مِن جمال قصة المسيح؛ أنَّ القرآنَ الكريم تناولها من البدايات الأولى، أيْ من قبل ولادة أُمه الطاهرة، وذلك عندما ابتهلتْ وتوسلتْ امرأة عمران إلى الله -جلَّ جلاله- ونذرتْ ما في بطنها خادماً لبيت المقدس {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} [آل عمران:35].

وبالرغم من أنَّ المولود (أنثى)؛ إلاَّ أنَّ الأُم الصالحة قرّرتْ أنْ تفي بنذرها لله، مع أنَّ الذَّكَرَ ليس كالأنثى خاصة في مثل هذه المهمة الشاقة {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36].

وعرض القرآنُ صورةَ مريم البتول (عليها السلام) في أكمل المشاهد القرآنية وأجملها. في ذات الوقت؛ أفحم اليهود، وردَّ على اتهاماتهم التي ألصقوها بها، فقال: {وَإِذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 42-43].

وهناك ثناء آخر بديع، يظل تاجاً على رأس أُم المسيح (عليه السلام): {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:91].

ولا تعجب إذا علمتَ أنَّ (مريـم) هي المرأة الوحيدة التي ذكرها القرآن بالاسم! بلْ أفرد لها سورة مُشرِقة بديعة تحمل اسمها هي (سورة مريم). كما أفرد سورةً أخرى لعائلتها المقدَّسة؛ هي (سورة آل عمران).

ليس هذا فحسبْ؛ فالمتأمل في القرآن الكريم، يجد أخبار المسيح وأُمه(عليهما السلام) مبثوثة في أغلب سور القرآن، وجاءت في شكل حدائق غنَّاء تسرُّ الناظرين، وبساتين فيحاء تُبهِج المؤمنين.

وقد أخبر الوحيُ السماوي؛ أنَّ البشارة العطرة التي تنزلت على مريم كانت تحمل اسم “المولود” وصفته، وكُنْيتِه، ومنزلته، ومعجزته، ورسالته- كل ذلك في أسلوب أدبي بليغ، وثوب قشيب: {إِذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران:45-46].

لقد جاءت صورة المسيح وحياته في القرآن في أبهى مظاهرها، وأكمل أطوارها، ففي سورة مريم: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا. وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا. وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا. ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} [مريم :30-34].

كما قَدَّم من البراهين والأدلة على صدق نبوته ورسالته، وتأييده بروح القدس طوال فترة دعوته، وأشار إلى معجزاته، وأخبر النصارى بما لمْ يعرفوه عن المسيح ذاته!

فأخبرهم أنه تكلَّم وهو في المهد، وكانوا جاهلين بهذه الآية {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ المَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} [المائدة:110].

هذه خمس معجزات للمسيح. والمعجزة السادسة؛ هي في قوله تعالى: {وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران:49].

أمَّا المعجزة السابعة: فهي معجزة (المائدة) التي أُنزلتْ على الحواريين، وهي مفاجأة أخرى، فلم يكن يعرفها النصارى قبل نزول القرآن الكريم!

وقد جاءت القصة في لوحة إيمانية بديعة: ]إِذْ قَالَ الحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ % قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ % قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ[ [المائدة: 112-114].

هذه هي معجزات المسيح السبع، تسبقها معجزة ميلاده من غير أب، وتُختَم بمعجزة رفعه مِن الأرض؛ حين حاولت السلطات الحاكمة إلقاء القبض عليه، وقتله.

المتأمل في هذه المعجزات؛ يرى أنها كلها متعلِّقة بعالم الروح كما هو واضح؛ لأنه أُرسِلَ إلى قوم ماديين، يُنكِرون الروح تماماً، ويُنكِرون البعث كلية، ويزعمون أن الإنسان جسم بلا روح، ويعتقدون أن دم المخلوق هو روحه أوْ نفسه. تقول التوراةُ في تفسير النفس: إنها الدم، فجاء فيها: “لا تأكلوا دم جسم ما، لأنَّ نفس كل جسد هي دمه”.

وسط هذا العصر الذي أنكر الروح تماماً، كان منطقياً أن تجيء معجزات المسيح إعلاناً لعالَم الروح! ولعلَّ مجيء السيد المسيح من غير أب، يثبت طلاقة القدرة الإلهية.

وقد جاء الإسلام ليُقرِّر أنَّ المسيح (عليه السلام) رسول سلام، وهداية إلى شعب إسرائيل، أرسله الله ليخرجهم من ظلمات الشرك والعناد والضلالة التي لجُّوا فيها إلى نور التوحيد والهداية والإيمان، وظلَّ يؤكد لهم دوماً أنه بَشَر مثلهم، ولكن الله مَنَّ عليه بالنبوّة والرسالة، وأنه جاء ليحلَّ لهم بعض الذي حُرِّم عليهم، وجاءهم بالمعجزات البينات؛ كيْ يصدِّقوه ويتبعوه.

هذا؛ وقد قَدَّم الوحيُ القرآنيُ خلاصةَ منهج المسيح ودعوته، وطريقة هدايته للناس بالحكمة والموعظة الحسنة، ورسالته التي فتح من خلالها الطريق للنبيّ القادم من بعده، وقد أوجز القرآن ذلك كله في آية واحدة: ]وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ[ [الصف:6].

وعرض الوحيُ جانباً مهماً لجهاد المسيح، وتصديق حوارييه له، فقال: ]كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ[ [الصف:14].

وقد أثنى الله ثناءً عطراً جميلاً على أتباعه من بعده، فقال: ]وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً[[الحديد:27].

ليس هذا فحسب؛ بلْ نافح عن مؤمني النصارى المضطهدين؛ كأصحاب الأخدود، ودافع عنهم دفاعاً؛ اتسم بالمحبة والانحياز لهم، وتوعَّد مضطهديهم الألدَّاء بأشدِّ العذاب في الآخرة.

كما أوصى (نبيُّ الإسلام) خيراً بالنصارى عامة، وأمر بإكرامهم، ومودتهم، والإحسان إليهم … ونهى أكثر من مرة عن إيذائهم أوْ الإساءة إليهم، مُغلِّظاً القول في ذلك إلى حد التهديد والوعيد، فقال: “مَن آذى ذِميّاً؛ فأنا خصمه يوم القيامة!

والعجب؛ أنَّ هذا القصص الرائع، ليس سِرّاً يعرفه الخواص فقط، وليس مطوياً في لفائف، ولا محفوراً في خنادق، بلْ هو آيات بينات تُتلَى آناء الليل وأطراف النهار، وتطوف الدنيا كلها من أقصاها إلى أقصاها … ويستمر هذا الذِّكْر الخالد، والثناء الباهر تلهج به الألسنة، وتأنس به القلوب والأرواح، ويتناغم معه الكون كله إلى يوم القيامة!

فهل هناك تشريف فوق هذا التشريف؟ وهل هناك تمجيد يربو على هذا التمجيد؟!

وليس مصادفة؛ أنْ يؤكد الوحي الكريم على (بشرية) المسيح في كل موضع يأتي فيه الحديث عنه، وذلك من بداية مولده وطفولته، وبرِّه لأُمه، وصلاته وصيامه وعبادته لربِّه، وعنائه وجهاده، إلى رفعه الذي جاء بمعجزة أيضاً، حيث أنقذه الله -سبحانه- ونصره ونَجَّاهُ من أعدائه الطغاة، ورفعهُ الله إليه روحاً وجسداً ]إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ[[آل عمران:55].

ماذا قال (نبيُّ الرحمة) عن (رسول السلام)؟

لمْ يقف التمجيد والتكريم والتشريف للمسيح وأُمّه الطاهرة عند حدود ما جاء به القرآن الكريم فحسب، وكان هذا يكفي جداً، بعدما أحاط بعموم رسالته إحاطة تامة، بلْ نجد هناك تمجيداً زائداً، وتكريماً مضاعفاً للسيد المسيح يجري عذباً سلسبيلاً على لسان أخيه مُحمَّد، حتى إنه لا يدعْ مناسبةً إلاَّ ويذْكُر أخاه المسيح بألطف العبارات وأرقّ الكلمات، فعندما تحدَّث عن نفسه، قال: (أنا دعوة أبي إبراهيم، وبُشرى أخي عيسى).

ويذكر أخاه المسيح في صورة النهي عن الغلوّ والمبالغة في الإطراء والتمجيد، الذي يصل إلى حد التأليه، فيقول: (لا تطروني كما أطرتْ النصارى ابن مريم، فقولوا: عبد الله ورسوله).

ويصف لنا أخاه المسيح، فيقول: “رِبعة أحمر كأنما خرج من ديماس”. أيْ حَمّام، وفي ذلك إشارة إلى جماله ونقائه ووضاءته وإشراق وجهه.

ومِن شدَّة محبته له، يصفه مرة أخرى، فيقول: “بينما أنا جالس عند الكعبة، فرأيتُ في أجمل ما يرى الرائي؛ رأيتُ رجلاً أدم سبط الشعر يُهادَى بين رجُليْن، وكأنَّ رأسه يقطر ماءً، فقلتُ مَن هذا؟ قالوا: هذا أخوك ابن مريم”.

تأمل هذا المشهد النبوي الجميل، ثمَّ أعِد التأمل مرةً تلو الأخرى في هذه اللوحة الرائعة … واسأل نفسك: أيّ كاميرا عجيبة بديعة، فائقة القدرة التي نقلت هذه الصورة الشفافة عن بُعْد؟!

وبعد رجوعه من رحلة السماء (المعراج) يقصُّ على الناس ما شاهده من آيات ربه الكبرى، فيروي للناس أنه رأى عيسى ويحيى (أبناء الخالة) يجلسان على كراسي من نور، فيصافحانه، ويدعوان له بالبركة، ويقرئان أُمته السلام!

ها هو (نبيّ الرحمة)  (مُحمَّــــد) يدافع عن أخيه المسيح دفاعاً حاراً، ولديه أدلته، فيقول: “أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة؛ فليس بيني وبينه نبيّ”.

بلْ يحضُّ أتباعه وأُمته على الإيمان به، والشهادة له بالنبوة والرسالة، كأحد أركان الإيمان الصحيح، الذي يقود إلى رضوان الله وجنته، فيقول: (مَن شَهِدَ أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأنّ مُحمّداً عبده ورسوله، وأنّ عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنّة حقّ والنار حقّ، أدخله الله الجنة على ما كان من عمل).

وها هو (نبي الرحمة) يتهلّل وجهه بالسرور، ويملأ النفوس بهجة، وهو يزفُّ للدنيا نبأً جميلاً، وخبراً مشوّقاً، إنها آية أخرى على صِدق نبوته، إذْ يقول: “يوشِك أنْ ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، وإماماً مقسطاً، يملأ الأرض عدلاً وسلاماً كما مُلِئتْ ظُلماً وجوراً”.

بلْ يذهب أكثر من ذلك، فيُباهي الأُمم والشعوب كلها، ويفتخر بأخيه المسيح، قائلاً: (كيف تهلك أُمّةٌ أنا في أولها وأخي عيسى في آخرها).

كما يُباهِي بأنصار المسيح وأتباعه، فيقول: “ليجدنَّ ابن مريم مِن أُمَتي رِجالاً كحوارييه”. ويقول لأصحابه وأُمّته: “وكونوا كأصحاب عيسى، قُتِلوا وصُلِبوا ونُشِروا بالمناشير وحُمِلوا على الحطب … ألاَ إنَّ مِيتةً في سبيل الله خير مِن حياة في معصية الله”.

وفي مناسباتٍ كثيرة، يُشبِّه (نبيّ الرحمة) بعض أصحابه بالمسيح في عطفه، وشفقته، ورحمته، فمثلاً يقول لأبي بكر -عندما اقترح إطلاق سراح أسرى بدر-: “إنَّ مثَلَكَ يا أبا بكر كمثل المسيح بن مريم عندما قال: ]إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ[.

ويُشبِّه “أبا ذر” بالسيد المسيح في وداعته وصبره وهدوئه، فيقول: “مثلكَ يا أبا ذر في أصحابي كمثل المسيح بن مريم بين الناس”.

لمْ يقف الأمر عند هذا الحد من التكريم؛ بلْ نجد (نبيّ الرحمة) يثني على والدة المسيح، فيقول: “كَمُلَ من الرجال كثير، ولم يكْمُل من النساء إلاَّ مريم ابنة عمران، وآسية بنت مُزاحِم).

ويمضي (نبيّ الرحمة) في ثنائه وتكريمه لأخيه المسيح وأُمِّه البتول، فنراه يفاجئ الدنيا بحقيقية لم يعرفها أحد من قبل، فيقول: “مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا“.

الله أكبــر …الله أكبــر!

ما هذه الحقائق التي يكشفها “النبيّ الخاتم” ليفاجئ بها العالَمِين؟

وما هذا البيان العذب الذي يُذيعه “خاتم الأنبياء” على مسامع الدنيا؟

بلْ؛ ما هذا العِلْم الغيبي الذي فاجأ به العالمَ كله؟!

أأقولُ ما هذا بَشَراً … إنْ هذا إلاَّ مَلَكٌ كريم؟!

لا، لا … بلْ أقولُ كما أمره الله أن يصف نفسه: ]قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ[.

بَشَرٌ … نَبيٌّ … جاء بالحق، وصَدَّق المرسلين!