لما تولى “تيد ليڤيت” رئاسة تحرير مجلة “هارفرد بزنس ريفيو” وصفها بأنها المجلة الوحيدة التي يكتبها أشخاص لا يعرفون الكتابة لأشخاص لا يعرفون القراءة”..

لم يغترّ رئيس التحرير البصيرُ باسم المجلة التي تنتمي إلى واحدة من أفضل جامعات العالم، ولا إلى السمعة الضخمة التي تحظى بها، ولا إلى العدد الضخم من القراء المتابعين، والمشترين، والمشتركين، والكتّاب، ورسائل الثناء والإعجاب، والإرشيف الضخم… إلى آخره، مما يمكن أن يخدر أكثر الناس ويرضيهم بحالهم ويجعل بينهم وبين تحسين حالهم  حجاباً مستوراً.

كان يعرف  جيداً أن بوسع المنتجات الرديئة أن تحظى بالرواج، والرضى، والسمعة، دون أن ينفي ذلك رداءتها أو يغير من سوئها!! وبناءً على ما يعرفه من حال المجلة التي جلس على عرشها؛ فقد قرر أن يتخذ القرار الأصوب، الذي كان القرار الأصعب:  وضع خطة لتغيير حال المجلة وإعادة بنائها  إدارياً وتحريرياً.

وهذه القصة خير مدخل لنا إلى الحديث عن الكاتب الرديء، حديثاً أرجوا ألا تنقصه الصراحة ولا يعوزه الصدق.

أهم سمات الكاتب الرديء: الشجاعة! ولا أعني بها قدرة الكاتب على قول رأيه مهما يكن موجعاً أو مخالفاً للسائد، بل أعني بها الرغبة العارمة في نشر المكتوب دون أن يتطرق إلى ذهنه أن المكتوب لا يستحق أن ينشر، وربما لا يستحق أن يُكتب!

ينعت مارك توين هذه الشجاعة بالشجاعة الطفولية.. ويشبهها بشجاعة الجنود في ميدان المعركة، إذ يقدمون أرواحهم رخيصة في معركة خاسرة ، لكن شجاعة بعض الكتاب تتجاوز هذا المقدار من الشجاعة، “إذ لا يمكن لأكثر هؤلاء الجنود ثقة واعتداداً بالتفس أن يأتي ويقذم نفسه كمرشح لمنصب القائد. لكن الكاتب المبتدئ يفعل ذلك، فهو يقدم بقلم غير مجرب أعمالاً تعوزها الصنعة والمهارة، ويعرضها على جميع المجلات… فهو بالأحرى يريد لهذه الأعمال أن تكون مع أعمال كبار الأدباء والكتّاب ممن وصلوا إلى ما وصلوا إليه في الأدب بعد سنين وسنين من المران والتدرب المضني والجاد عندما  كانوا في مراحل مبكرة من هذه الصناعة”. (مارك توين، سيرة ذاتية)

 

الكاتب الأمريكي مارك توين

 

وقد كان حظ مارك توين حسناً إذ مات قبل أن تمتلئ رفوف المكتبات بعناوين كثيرة سطرها أشخاص ليس لهم من الصناعة قليل ولا كثير، وبجرأة بالغة وثقة لا حدود لها.

وثاني سمات الكاتب الرديء: العجلة… في شأن نفسه، وكتابته، والثمرة من كتابته:

فهو دائماً يستبق الأمور قبل استحقاقها، يلقب نفسه بالكاتب فلان، وربما نصب لنفسه منبراً إليكترونيا، ونشر مجموعة قصصية، واتخذ لنفسه عموداً دورياً في مجلة أو جريدة، إلى غير ذلك… كل ذلك وهو لم يتحقق بأبجديات الكتابة؛ فهو لا يقيم جملة صحيحة، ولا يعرف أبجديات النحو التي لايسع القارئ ولا الكاتب الجهل بها، وهو لا يعرف كيف ينضد الأفكار ولا كيف يعرضها..

وهو متعجل في الكتابة نفسها، لا يعطي الكتابة ما تستحق من الوقت، ولا البحث، ولا المراجعة، ولا إعادة الكتابة، ولا الحذف إن لزم الأمر.

وفي الجانب المقابل، وهو الجانب المشرق، يجد المرء في أولى صفحات “رحلتي الفكرية” لعبدالوهاب المسيري العبارة الآتية: ” حينما أنتهي من أحد أعمالي الفكرية، عادة ما أتأمله وأتأمل القضايا المنهجية والفكرية التي يثيرها حتى أبلورها لنفسي لتتضح الرؤية، وأدرك جوانب في الموضوع الذي أتناوله لم يكن سبق لي إدراكها، كما أتعرف على بنية العمل الداخلي، وفي معظم الأحيان، إن لم يكن فيها جميعاً، تنتهي هذه العملية بإعادة كتابة العمل عدة مرات، إلى أن يستقر العمل تماماً ولا يفضي التأمل إلى جديد، وهذا ما فعلته في موسوعة اليهود والسهودية والصهيونية، وقد أدى التأمل في هذه الموسوعة إلى إعادة كتابتها عدة مرات عبر عدة سنوات”. وأعجز عن التعليق على هذه العبارة بما يليق، لكنها دعوة للكاتب المتعجل إلى التأمل جيداً؛ فاستعجال نشر العمل قبل مراجعته وصفة جيدة للرداءة، وحظ الكاتب من الرداءة يقاس بمقدار حظه من العجلة.

والكاتب الرديء – بطبيعة الحال-متعجل في جني ثمرة الكتابة: يظن أن القلم سيغدو سلساً في يده بسهولة، ويحسب المهارة في الكتابة تأتي بلا عناء، وتحدث بلا جهد وتدريب طويل، وعرق غزير.

والكاتب الرديء قارئ رديء بالضرورة، فإما أنه لا يقرأ -أو لا يكاد يقرأ-، وإما أنه يقرأ قراءة رديئة.. والقراءة الرديئة صنوف يطول ذكرها، لكن أكثرها شيوعاً: قراءة الكتب الرديئة التي لا تورث صاحبها ذوقاً، ولا ترفع معاييره، ولا تزيده علماً ولا وعياً ولا جمالاً. والقراءة السيئة للنصوص الجيدة: كأن يبتلع القارئ ما حقه المضغ الجيد، وأن يمر بدرر المكتوب دون أن يلقي لها بالاً،  إلى نحو ذلك.

خلاصة القول: إن شئت أن تكون كاتباً رديئاً:  كن شجاعاً وبادر بالنشر، واستعجل في إظهار نفسك، واكتب نصوصك بسرعة، ولا تراجعها، ومن نصح لك فاتخذه عدواً ولا تصدقه، والأهم من كل ذلك: لا تقرأ، فإن قرأت فلا تقرأ بشكل جيد.