نعرض في هذا المقال الذي يمثل الجزء الثاني من (كيف عرض القرآن حياة الأنبياء)؛ لشخصية أبي الأنبياء وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام كما قدمها القرآن من زاوية قلقها المعرفي وحرصها على بلوغ درجة اليقين.

لم يكن إبراهيم عليه السلام مشركا كما أكد ذلك القرآن في أكثر من موضع وكما نفاها هو عن نفسه في قوله:(وما أنا من المشركين)، وليس بعد قول الله قول. هذا أولا. لكن التعسف الذي ركبه أغلب المفسرين في توجيه آيات الأنعام لم يقنعني يوما واحدا، فلا السياق يقبل إضمار الاستفهام بسلاسة، رغم جواز ذلك لغة كما هو معروف.
وقد وجدت في تمهيد القرآن لحوار إبراهيم مع النجوم والقمر بقوله(وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) إشارة إلى معنى قد يكون أقرب إلى طبائع الأشياء وأشد انسجاما مع منطوق وسياق الآيات(آيات الأنعام).
ذلك بأن اليقين يمثل مرحلة حسم الموقف بعد مرحلة القلق، فمساءلة إبراهيم الفتى النابه لمعبودات قومه هو تعبير عن قلقه الفطري من الشرك، ولكنه لم يتلق برهان ربه بعد، وهذا القلق الفطري لا يقتضي وجود الإيمان، وإن كان يؤكد نفي استمراء الشرك والاطمئنان إليه.
وهذا التطلع إلى اليقين والروح المشرئبة لمزيد عرفان سمة في شخصية إبراهيم عليه السلام كما تدل على ذلك هذه الآيات وآيات البقرة(وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى؟) الآية.

إن القرآن يعرض لنا شخصية إبراهيم عليه السلام رجلا لم تقنعه آلهة قومه وأبيه منذ البداية، وفطرته الكامنة تلح عليه بالبحث عن الله، فطرته النقية تنفر من الشرك والكفر، وعقله الفتي الوثاب لا يستسيغ عبادة تلك الأجرام والأصنام، فهو قلق متحير، والظاهر – فيما أرى – أنه حينها لم يكن عنده تصور شامل مفصل عن (الله).
وهذا هو المنسجم مع طبيعة النفس البشرية، وللأنبياء والرسل عليهم السلام مزيد عناية من الله، ولكن تفصيل تلك العناية لا يثبت إلا بدليل شرعي ولا أعلم (دليلا صحيحا صريحا) في موضوع أنهم عليهم السلام معصومون قبل الوحي وبعده.

والفطرة – كما هو معلوم – هي ذلك الإحساس الكامن في تلافيف النفس بوجود إله، لكنها لا تفصل طبيعته ولا صفاته، ولا تعبر عن ذلك الرب الكامن فيها إلا من خلال النفرة من غيره والاطمئنان إليه.

وبما أنه لم يكن يمتلك مصادر أخرى توسع دائرة بحثه عن الله – حيث قومه بدائيو التصور عن الله – لم يكن عنده إلا خيار وضع الآلهة المقدسة عند قومه أمام سؤال الشك المنهجي.

ولا يقاس حال النبي صلى الله عليه وسلم على إبراهيم عليه السلام، إذ نبينا جاء في فترة نضج فيها تصور البشرية عن الله عز وجل بفعل تعاقب رسالات كبيرة هما اليهودية والنصرانية، فصفات الله وأسماؤه وعلاقته بالخلق كلها معروفة في المخيال الجمعي للبشرية حينها وخصوصا الجزيرة العربية التي كان سكانها يعايشون اليهود والنصارى مساكنة ومتاجرة.
إذن لم يكن النبي صلى الله عليه يحتاج لغير رياضة روحية (تحنثه في حراء) عرفانية، أما الوعي والإدراك فكان حاصلين حتى لعبدة الأوثان(ليقولن الله)(ليقربونا إلى الله زلفى).

إذن قام إبراهيم عليه السلام بإخضاع تلك الآلهة المزعومة غير المقنعة لعقله وغير المُطَمْئِنَة لفطرته، قام بإخضاعها للتجريب، واحدة تلو الأخرى في مدة (يوم كامل) فيما يظهره السياق، ثم ظهر نقص كل واحدة منها حين افتقدت أهم ما كان في وعيه من صفات الإله الحق وهي (القيومية) التي تناقض (الأفول) وصفة العظمة التي كان مظهرها ماديا في وعيه وإدراكه، حسب ما أفهم من قوله(هذا أكبر).

وعند أفول الكوكب الأول ازداد شكه ومعرفته بأن هذا الكوكب غير صالح للعبادة، ولكنه رأى القمر أكثر بهاء وسناء فقال (هذا ربي) فلما أفل هو الآخر ضجر من تكرر الظاهرة، فنادى بصوت الفطرة(لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين), وهو تعبير يظهر فيه يقينه بسقوط الآلهة المزعومة (القمر) من حسبانه واعتباره، وكأنه أمام جمال القمر وبهائه كان اقتنع قليلا بصلاحيته، فلما غاب اشتدت حيرته وقلقه.

فجرب الشمس حين بزغت لعلها تأتي بمزيد إقناع وصلاحية لأن تكون الرب، وعند أفول الشمس التي حازت ميزة (الكبر المادي) على بقية الأجرام، عند أفولها فكر في ما وراء ظاهرة الأفول المطردة هذه، فتطابقت فطرته عليه السلام مع وعيه وأشرق الإيمان الموقن:(إني وجهت وجهي الذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين).

إن آيات البقرة قد تؤكد ما ذهبنا إليه عن طبيعة نفسه، تلك النفس الواسعة التي لا ترتوي من معرفة ربها فتظل تبحث عن مقام أعلى ويقين أكبر، (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ )، إن دافع إبراهيم لهذا الطلب هنا ليس نابعا من شكه في قدرة الله على إحياء الموتى، ولكنه نابع من التطلع المؤمن إلى مزيد معرفة يؤدي إلى مزيد يقين، والله أوسع من أن يحيط به فكر حتى لو كان فكر نبي خليل.

إن الموقفين السابقين ينسجمان بتطابق مع الصفات التي ذكرها القرآن لشخصية إبراهيم عليه السلام، وهي صفات الحلم الكبير والقلب السليم الأواه المنيب، إن خلق الحلم لا يتسم به إلا صاحب نفس سجحاء واسعة، قادرة على تحمل وصبر ما يضيق به غيرها من ذوي النفوس الكزيزة، وإن صفات (الأواه المنيب) تنسجم مع طبيعة تلك النفس الجريئة المتوفزة بحثا عن ما يروي ظمأها لخالقها الذي اصطفاها وأكرمها بالنبوة والخلة:( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ).