قبل الإجابة على سؤال كيف نصنع الفقيه الاقتصادي ؟ منذ بواكير عصر النهضة وإشكالات نظرية عدة تفرض نفسها على المفكر المسلم الساعي إلى التماس تنظيرات عصرية في تضاعيف النص الشرعي؛ وهو ما كان من شأنه تنوع وإثراء الفكر السياسي الإسلامي واختلاف مدارسه ورؤاه، ومع تفوق الرأسمالية العالمية وسيطرة المعاملات الاقتصادية على مجريات الحياة بات من الصعب أن يخوض المسلمون هذا المعترك دون الميزان الشرعي الذي يضبط أداءهم المالي.

وجاءت محاولات المفكرين في التنظير لما سمي بالاقتصاد الإسلامي تلبية لضرورة عصرية من شأنها أن تدخل تعاملات المسلمين المالية والاقتصادية إلى حظيرة الشرع القويم، سواء فيما يتعلق باجتناب الربا، أو صحة العقود والبيوع، أو تحقيق مقاصد الشريعة في الإنفاق.

وتلبية لحاجات المسلم المعاصر في هذا المضمار كانت المصارف الإسلامية التي حاولت البحث عن صيغة شرعية لاحتواء أزمة الممارسات المالية والاقتصادية للمسلمين في عصر تعتمد صروحه الاقتصادية الكبرى على الفوائد الربوية.

في هذا السياق جاءت مشاركة الدكتور قطب الريسوني، أستاذ الفقه وأصوله بجامعة الشارقة بعنوان: “نحو تأهيل اجتهادي لأعضاء هيئة الفتوى بالمصارف الإسلامية.. رؤية في تفعيل الممارسة الشرعية”، والدراسة بمباحثها الخمسة تحاول أن تذلل الطريق أمام الفقيه الاقتصادي المفترض.

أهمية الفقيه الاقتصادي

تعترف الدراسة ابتداء بوجود قصور في التصورات الشرعية الخاصة بالتعاملات المالية؛ بسبب عدم وجود الفقيه المتخصص في النواحي المالية؛ وهو ما يقف عائقا أمام المؤسسات المالية الإسلامية (المصارف الإسلامية- البورصات الإسلامية-شركات التأمين التكافلي- الفنادق الإسلامية) دون إتمام رسالتها على الوجه الأمثل.

ويرى الريسوني أن الخلل في أداء المصارف الإسلامية ينبع من حداثة تعاملات هذه المؤسسات؛ وهو ما يستلزم معرفة فقهاء الشريعة بالمكونات الفنية للمصارف؛ حتى يمكنهم إصدار الفتاوى الخاصة بها.

ويضيف أن تعامل الفقيه في قضايا المصارف الإسلامية يتطلب تمتعه بالحس الاجتهادي، وألا يكون فقيها تقليديا؛ يحفظ النصوص، ويسرد الأدلة، ولكن ينبغي أن يتصف بالقدرة على الإفتاء المبني على قواعد أصولية سليمة تأخذ الواقع المعيش بعين الاعتبار؛ إذ اشترط الأصوليون أن يلم المفتي بعلمين حتى تتوافر شروط الصحة في فتواه، وهما: العلم بالنص الشرعي، والدراية بالواقع، ولذلك يقول الإمام الشافعي رحمه الله: “لا يصح لفقيه أن يقول في ثمن الدرهم ولا خبرة له بسوقه.

ويعزو الريسوني أسباب تضارب الفتوى بين الهيئات الشرعية للمصارف الإسلامية في المسألة الواحدة إلى غياب المعرفة الاقتصادية والمالية، والاعتماد على ما يقدمه الآخرون للمفتين من تعريف أو توصيف للمعاملات المالية والاقتصادية.

وبطبيعة الحال، فإن التكوين العلمي لمفتي المصارف الإسلامية أتى من خلال مناهج وبرامج مؤسساتنا التعليمية المعنية بالنواحي الشرعية؛ حيث يغلب عليها الفصل بين العلوم الشرعية وباقي العلوم العصرية، خاصة الاقتصادية منها؛ وهو ما يجعل الفقيه المعني بالفتوى للمصارف الإسلامية يعتمد على إعادة تكوين خلفياته المالية والاقتصادية بعد أن ينهي تخرجه من المؤسسات التعليمية، ويجد نفسه أمام واقع يُفرض عليه.

فعلى الرغم من تعدد التعريفات حول المصرف الإسلامي، إلا أن مضمون هذه التعريفات ينصرف إلى أنه “مؤسسة تلتزم في معاملاتها المالية، ونشاطاتها الاستثمارية بالشريعة الإسلامية أحكاما ومقاصد، مع الالتفاف إلى تطلعات المجتمع الإسلامي إلى التنمية الاقتصادية والاجتماعية”، ومن هنا فالحاجة ملحة وضرورية لوجود الفقيه الاقتصادي.

أصول الصنعة

وفي سبيل الوصول إلى الفقيه الاقتصادي المرتجى لتجاوز هذه الأزمة المصرفية يرى الريسوني حتمية توفر بعض الشروط الهامة:

1- إتقان اللغة العربية، بالقدر الذي يسعفه في فهم النصوص الشرعية ومدلولاتها.

2- إتقان علم الحديث؛ لمعرفة رتبة الحديث من الصحة والضعف؛ ليحسن الاستدلال به في فتواه.

3- أصول الفقه؛ وذلك لأن معظم القضايا من المستجدات التي لا يرجع فيها لنص شرعي، ولكن يعتمد المفتي بشكل كبير على القواعد الفقهية.

4- علم المقاصد؛ وهو مما يصون النظرة الاجتهادية، ويساعد المفتي في تحقيق مراد الله عز وجل في حياة الناس، ويحقق مصالحهم العاجلة والآجلة.

5- فقه المعاملات المالية؛ وهذا الفرع من الفقه لابد أن يتقنه من يتصدى للإفتاء في المصارف الإسلامية؛ فهو مجال النوازل المالية والاقتصادية، ووجود خلل أو نقص لدى المفتي في هذا التخصص يؤدي إلى خطأ الفتوى وعدم دقتها.

6- علم الخلاف؛ وهذا الفن يعين المفتي على معرفة مناهج الاستنباط وأصول الاستدلال التي جرى عليها الأئمة المجتهدون في فهم مراد الله من الوحي، والاستفادة من التراث الفقهي الثري والضخم.

7- فقه الدعوة، ويعد هذا الأمر من المستجدات التي لم تدركها من قبل الكتابات المعنية بالاجتهاد، ومن خلال هذا الفقه يعمل المفتي على ترشيد العاملين بالمصارف الإسلامية من حيث السلوك المهني الإسلامي، وتعميق معرفتهم بالتعاملات المالية الشرعية.

8- أدب الجدل والمناظرة، وتأتي أهمية هذا الجانب من خلال قراءة ما تعرضت له المصارف الإسلامية من انتقادات، سواء بالحق أو بالباطل، ومهمة المفتي أن يدافع عن التجربة في ضوء الممارسات الصحيحة والسليمة شرعيا.

9- المعرفة الاقتصادية والقانونية؛ وهو ما أشار إليه ابن القيم (رحمه الله) حين أوضح أن المفتي لا يتأتى له الحكم بالحق قبل أن يفهم واقعه ويتفقه فيه.

وذلك فضلا عن القدرة على جمع المعلومات عن القضية موضع الفتوى، ومشاورة أهل الخبرة، وتفكيك القضايا المعروضة عليه إلى عناصر فرعية وأصلية، واستجلاء الباعث على المعاملة الاقتصادية، ثم التكييف الفقهي لها، واختيار الأيسر من الآراء ما لم يكن إثما، ومراعاة الأولويات والمآلات، وإعمال قواعد الاستحسان، وإبطال الحيل، وسد الذرائع، والاستئناس بالقرائن والعادات، واستشراف المستقبل.

الطريق والتوصيات

وأخيرا أوصى الريسوني بمأسسة العمل الإفتائي في المصارف الإسلامية، مشيرا إلى ضرورة الاهتمام بالدراسات الجامعية المتخصصة، وإنشاء شعب للإفتاء الاقتصادي بكلية الشريعة، أو وجود لون من الدراسات العليا يؤهل المفتي بالشكل الذي يجعله قادرا على التعامل مع المسائل المالية بنفس الدرجة من الإتقان للنواحي الشرعية.

وشدد على حسن اختيار من يلتحقون بهذه المؤسسات والمعاهد؛ لأن من يؤهل للاجتهاد لابد أن يكون متمتعا بسعة الأفق، ومستوفيا لشروط علمية ونفسية تؤهله للالتحاق بهذه الصنعة.

وتابع الريسوني: ولا يقتصر التعليم والتدريب على التخرج من هذه المؤسسات أو المعاهد، ولكن لابد من التدريب المستمر بعد التخرج، وإقامة ورش العمل والندوات والمؤتمرات المتخصصة, وأن يستفيد المفتي من جهود المجامع الفقهية والإصدارات العلمية، والفتاوى المعاصرة للعلماء المتخصصين.

محمد طلبة