قال تعالى : { قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا } الإسراء : 62

ما إن رأى إبليس ذاك التكريم الإلهي للمخلوق الجديد، حتى أخرج ما بنفسه من مشاعر وصفات وأخلاق. أظهر الكبر والحسد والغيرة ونكران الجميل. أخلاق تجمعت سريعاً فكانت كفيلة بطرده مما كان فيه، وتنزيل رتبته من الملائكية الرفيعة إلى الشيطانية الدونية، وهذا ما حدث في الملأ الأعلى في زمن من الأزمان.

لكن هل انتهى مشهد طرد إبليس من المقام الملائكي الرفيع إلى الشيطاني الوضيع بالسرعة التي يمكن تخيلها؟ لا، لم ينته سريعاً، بل استمر في الخصام والجدال العقيم، ورأى أن يطلب من الله العلي القدير، الطلب الأخير قبل الرحيل. طلب الخلود في الحياة الدنيا، ليس للتوبة والإنابة بالطبع ، بل لبدء مرحلة جديدة مع هذا المخلوق وذريته، والعمل على تأسيس صناعة العداوة لهذا الذي كرّمه الله عليه وذريته إلى يوم القيامة، فاستجاب الله له. فهل رحل سريعاً؟ بالطبع لم يرحل إلا بعد أن أخرج ما بنفسه التعيسة من حقد تكوّن سريعاً، وأعلنه صريحاً أمام القدير..

من جملة ما قال وتعهد بتنفيذه إلى يوم الدين ( لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ). تقول العرب احتنك الجراد الزرع إذا ذهب به كله. وفي قول آخر، حنك الدابة يحنكها: إذا شد في حنكها الأسفل حبلاً يقودها – كما في تفسير البغوي – أي: لأقودنهم كيف شئت. وقيل لأستولين عليهم بالإغواء ( إلا قليلا ) يعني المعصومين الذين استثناهم الله عز وجل في قوله تعالى (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان).

بعضكم لبعض عدو

بدأت سريعاً رحلة العداوة بين الإنسان والشيطان إلى ما شاء الله لها أن تكون، بعد أن ارتكب آدم – عليه السلام – خطيئته الأولى وأكل وزوجته من الشجرة – رمز المحظور – من بعد أن خفت عزيمته وإرادته للحظات معينة، وسار وراء شهوته وغريزته البشرية، حتى كانت الخطيئة الأولى التي أخرجتهما من الجنة إلى الأرض، حيث ستكون هذه الأرض ميدان المواجهة، والمعركة بين الخير والشر، والحق والباطل إلى قيام الساعة.

لكن على رغم أن آدم – عليه السلام – ارتكب المحظور بفعل الفطرة البشرية، عاد سريعاً بحسب الفطرة ذاتها، حيث تاب وأناب، فغفر الله له. ثم أرشده الله وبين له مصدر الغواية، وعرّفه بعدوه وعدو ذريته إلى يوم الدين. فأدرك تمام الإدراك أن وجوده وخلافته في الأرض، تستلزم منه وذريته فهم حقيقة الأمر، وأن هناك طريقين في هذا الوجود لا ثالث لهما. إما الله وإما الشيطان – كما جاء في ظلال القرآن – وإما الهدى وإما الضلال. إما الحق وإما الباطل. إما الفلاح وإما الخسران.

هل احتنك إبليس البشر ؟

هل وضع إبليس حباله في الحنك الأسفل لبني آدم يقودهم أينما شاء وكيفما شاء؟

هل ينفذ إبليس وعده وعهده اليوم، مع ذرية آدم الذي بسببه تم طرده من السماء إلى الأرض؟ هل نجح إبليس في صناعة الإغواء والبغضاء والعداوة بين البشر؟

الأسئلة أكثر مما يمكن أن تحتويها هذه المساحة المحدودة، والإجابات على تلكم الأسئلة لا تحتاج لكثير شروحات وتفصيلات. فأينما وجهت وجهك اليوم، ونظرت إلى حال البشر، وجدت الشيطان في التفاصيل. تلك التفاصيل التي صارت شرارات لعداوات ستدوم طويلا، أو مشاريع للشر تتسع وتنتشر، أو أساسات لعلاقات متوترة ستغلب عليها الديمومة، أو غيرها من تلك السلوكيات أو الأفعال التي يسعد بها إبليس أيما سعادة، ويطرب لها ليلاً ونهارا.

طالع وتجول ببصرك وسمعك وفؤادك في عوالم السياسة والتجارة والعلاقات البشرية المتنوعة، ولاحظ كمية وعدد من احتنكهم الشيطان، وصار يقودهم يمنة ويسرة، حتى وصل الحال بكثير منهم أن يجاهر بأفعال وسلوكيات – أكاد أزعم أن الشيطان نفسه لم ولن يجهر بها – كما يقوم بني البشر بذلك ! وإلى يوم الناس هذا، يستمر الشيطان في نجاحاته مع ذرية آدم، وإن كانت هناك إخفاقات بالمثل، لكن نجاحاته أكثر، ليس لشدة ذكائه أو قدرة منه، بل لغباء الإنسان. فالشيطان لم يضرب متابعيه بالعصا – كما يقول الحسن البصري رحمه الله – ولا أكرههم على شيء، وما كان إلا غروراً وأماني دعاهم إليها فأجابوه.

كيف نكذّب ظن إبليس ؟

يعتقد إبليس منذ القدم أنه ناجح في عمله، فقد ظن ظناً معيناً، وصدّق نفسه أو ظنه. في هذا يقول الحسن البصري – رحمه الله – كما جاء في تفسير ابن كثير: لما أهبط الله آدم من الجنة ومعه حواء، هبط إبليس فرحاً بما أصاب منهما، وقال: إذا أصبت من الأبوين ما أصبت، فالذرية أضعف وأضعف. كان ذلك ظناً من إبليس. فأنزل الله عز وجل) ولقد صدّق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين ( فقال عند ذلك إبليس: لا أفارق ابن آدم ما دام فيه الروح، أعده وأمنّيه وأخدعه. فقال الله عز وجل (وعزتي لا أحجب عنه التوبة ما لم يغرغر بالموت، ولا يدعوني إلا أجبته، ولا يسألني إلا أعطيته، ولا يستغفرني إلا غفرت له).

لقد نزل آدم وزوجه إلى الأرض، وهما يدركان طبيعة المعركة التي سيعيشانها وذريتهما مع عدوهم الواضح البيّن، والذي أعلن عداوته منذ اللحظات الأولى من ظهور هذا المخلوق البشري. ودون شك أن نتيجة هذه المعركة التي بدأت منذ الأزل، ولازالت مستمرة إلى ما شاء الله لها أن تستمر، يقررها الإنسان بنفسه هو. فإن أراد كسب المعركة ضد الشيطان، فله ذلك. أو يترك الأمر لعدوه، فتكون النتيجة بالتالي خسائر متتالية دون أدنى ريب. والقرآن الكريم واضح في هذا الأمر (فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى). وتلكم هي خلاصة حديث اليوم.