من الأحاديث المشهورة في كتب الفقه وأصوله، حديث: “لا يقضي القاضي وهو غضبان”. ولكن إسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صحّ بلفظ: (لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان)[1].

وقد تبوأ هذا الحديث مكانة علمية متميزة، سواء من حيث البحث عن دلالته الفقهية، أو من حيث محاولة تنزيله على واقع الناس ومعاشهم فقهيا، وقضائيا، وتسييريا للشأن العام بصفة عامة.

حول فقه هذا الحديث

لقد دلّ هذا الحديث على أن علة منع القاضي من مزاولة مهنته للفصل بين المتخاصمين هو الغضب، من حيث هو موقف نفسي عاطفي، يشوش على الذهن والعقل، فيمنعهما من حسن النظر في القضية المطروحة على العدالة. كما يصدّ عن جودة تأمل الحجج المقدَّمة من قبل الأطراف المتنازعة، تحقيقا لمقصد العدل، الذي هو قيمة إنسانية كونية عليا، أكد عليها ديننا الإسلامي الحنيف. كما اعتبره الفقهاء طريقا لقياس مصلحي، أساسه إلحاق حكم المنع هذا، بنظائر فقهية متماثلة، بجامع تحقيق مقصد العدل، وتحريم الظلم.

وفي الإطار ذاته، يقول ابن حجر: «قال المهلب سبب هذا النهي أن الحكم حالة الغضب قد يتجاوز بالحاكم إلى غير الحق فمنع، وبذلك قال فقهاء الأمصار. وقال ابن دقيق العيد: فيه النهي عن الحكم حالة الغضب لما يحصل بسببه من التغير الذي يختل به النظر فلا يحصل استيفاء الحكم على الوجه. قال: وعداه الفقهاء بهذا المعنى إلى كل ما يحصل به تغير الفكر كالجوع والعطش المفرطين وغلبة النعاس وسائر ما يتعلق به القلب تعلقا يشغله عن استيفاء النظر. وهو قياس مظنة على مظنة، وكأن الحكمة في الاقتصار على ذكر الغضب لاستيلائه على النفس وصعوبة مقاومته بخلاف غيره.[…]

وقول الشيخ[2] وهو قياس مظنة على مظنة صحيح، وهو استنباط معنى دل عليه النص، فإنه لما نهى عن الحكم حالة الغضب، فهم منه أن الحكم لا يكون إلا في حالة استقامة الفكر، فكانت علة النهي المعنى المشترك وهو تغير الفكر. والوصف بالغضب يسمى علة بمعنى أنه مشتمل عليه، فألحق به ما في معناه كالجائع. قال الشافعي في الأم أكره للحاكم أن يحكم وهو جائع أو تعب أو مشغول القلب فإن ذلك يغير القلب»[3].

ومن شراح هذا الحديث الذين عنوا به كذلك العينيُّ الذي يقول: «وقال الغزالي: فهم من هذا الحديث أنه لا يقضي حاقنا أو جائعا أو متألما بمرض. وقال الرافعي: وكذلك لا يقضي بكل حال يسوء خلقه فيها ويتغير عقله فيها. بجوع وشبع مفرط ومرض مؤلم وخوف مزعج وحزن وفرح شديدين وكغلبة نعاس وملال، وكذا لو حضره طعام ونفسه تتوق إليه. قال: والمقصود أن يتمكن من استيفاء الفكر والنظر»[4].

ومما أورده ابن بطال في تعليقه على الحديث قيد الدراسة: «ومن الأحوال التي تكره للقاضي أن يقضى فيها أن يكون جائعا، روى عن شريح أنه كان إذا غضب أو جاع قام. وكان الشعبي يأكل عند طلوع الشمس فقيل له. فقال: آخذ حلمي قبل أن أخرج إلى القضاء. ولا يقضى ناعسا ولا مغموما. قال الشعبي: وأي حال جاءت عليه مما يعلم أنها تغير عقله أو فهمه امتنع من القضاء فيها»[5].

وانطلاقا من النصوص المتقدمة قريبا في شرحها لهذا الحديث، يمكن القول بأن علة منع القاضي من وظيفته في الفصل بين الأطراف المتنازعة، هو الغضب من حيث هو حالة نفسية عاطفية، تؤثر سلبا على مهمته، التي يُطلب فيها ما يخالف حالة الغضب.

على أن تعليل منع القاضي من مباشرة مهامه حالة غضبه، هو تأثيره المباشر على عقله وفكره، مما يجعله معرضا لمخالفة مقصد العدل وعدم الظلم، الذي هو جوهر العدالة الإنسانية الكونية في عموميتها، والإسلامية الشرعية في خصوصيتها.

وإذا كان التعليل بالغضب ليس رأيا انفراديا لآحاد العلماء؛ فقد نسبه المهلب إلى فقهاء الأمصار، وعزاه ابن دقيق العيد إلى الفقهاء، ونسبه ابن حجر إلى الشافعي، فلا غرابة أن يكون منهج السلف الصالح من علماء الأمة في القضاء، أخذهم بهذا التعليل المصلحي، في صورة الغضب أو ما في معناه، كما مرّ معنا عن  شريح والشعبي.

ولم يتوقف اجتهاد العلماء على فقه هذا الحديث عند هذا الحد، فقد ألحق فقهاء الأمصار بالغضب حال الحُكم – بجامع مراعاة مقصد العدل-: الجوع والشبع المفرطين، والمرض، والخوف، والفرح، وغلبة النعاس، والغم، والملال، والتعب، وكذا حضور الطعام مع  توقان النفس إليه.

على أن المقصد من ذكر هذه الإلحاقات القياسية ليس حصرا لجميع الصور القياسية في الحالات المذكورة قريبا، وإنما الهدف هو التمثيل بها على كل المسائل التي تصدّ العقل عن حسن اشتغاله، بغية استيفاء الفكر والنظر، والابتعاد عن كل حال يغير مزاجه، ويصده عن جودة عمله.

نحو فقه تنزيلي لهذا الحديث

من التوجيهات العلمية لحديث الباب، ما ذكره البخاري – من خلال تبويبه للحديث السابق – بقوله: “باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان؟[6]. على أن الأهمية المعرفية لهذا التوجيه المقترح يتجلى في التوجيه اللطيف الذي قدمه البخاري، في صورة قياس مصلحي بامتياز يحتاج إلى تأمل دقيق؛ إذ لا يعدي الأحوال المتشابهة التي تعرض للقاضي حال غضبه، بما سبق بيانه كالجوع والخوف والفرح، وإنما رام إلحاق وظيفة الإفتاء بمهمة القضاء، بجامع حضور العقل، الذي هو سبب لتحقيق مقصد العدل.

وبيان ذلك يبرز من خلال النظر إلى أن منع القاضي من القضاء حال غضبه، إنما سببه تحقيق العدل، باعتباره أحد المقاصد التي راعتها الشريعة الإسلامية في عامة أحكامها. على أن المحافظة على هذا المقصد الشرعي، تتجاوز مسألة القضاء بين المتخاصمين، لتتعدى صورة ذلك إلى الإفتاء والتبليغ عن الله سبحانه، مما يظل بعيد التحقق في حال الغضب المانع من حسن النظر والفكر في النازلة المطروحة.

وفي واقعنا المعاصر، فإن الحاجة ماسة إلى فهم هذا الحديث وتدبره وتطبيقه في واقعنا الحديث، سواء الفردي منه، أو الجماعي، أو ما يتعلق بمستويات التكليف الكلي للأمة الإسلامية، بسبب الفتن والمصائب التي أصابت المسلمين أفرادا، وجماعات، ومؤسسات، وأمة ككل.

فعلى المستوى الفردي والأسري، فلقد جنى كثير من المسلمين الويلات بسبب قرارات اتخذت حال الغضب الشديد، أو مثاله الفرح، أو الحزن، ناهيك عن الجوع أو الشبع المفرطين، وغير ذلك؛ فهذا وجد نفسه يسمع نطق المحكمة بإعدامه، أو بالمؤبد، وقد أُدين بتهمة قتل زوجته، أو أخيه، أو صديقه، بسبب نشوة ولذة غيبت لبّه عن وظيفته الطبيعية. والآخر يلوم نفسه طول حياته، بعدما وجدها خلف القضبان، لا لأمر سواء أن ابنه الأصغر أحدث تلفا في طلاء سيارته الجديدة، فضربه ضربة قاتلة أردت الصغير جثة لا حياة فيها، ليكتشف الأب أن ابنه الهالك قد نحت على سيارة أبيه عبارة “أحبك يا بابا”.

وعلى المستوى الجماعي، والتسييري للشأن العام، سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، فكم عانى المسلمون عبر مسيرتهم التاريخية الطويلة – ولا يزالون- من قرارات حمقاء، وتصرفات عوجاء، ومواقف رعناء، اتخذت في وضعيات تتسم بكونها تندرج تحت الصور نفسها التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إما نصا كما رأينا مع الغضب، أو مفهوما وقياسا كما مر معنا من الفرح، والشبع، والجوع، وغيرها، مما قاسمها المشترك شغل القلب والعقل عن حسن الفكر، وجودة التصرف، والله المستعان؟!


[1] رواه البخاري ومسلم بألفاظ متقاربة؛ فأما لفظ البخاري، فهو: (لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان). وأما لفظ مسلم، فهو: (لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان). وانظر:

البخاري، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم (ت 256 هـ)، صحيح البخاري [المسمى “الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه”]، تح محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، ط 1، 1422 هـ، كتاب الأحكام، باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان، (رقم الحديث 7158)، ج 9، ص 65؛

مسلم، مسلم بن الحجاج بن مسلم (ت 261 هـ)، صحيح مسلم [المسمى: “المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عـن العدل إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم”]، تح محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، كتاب الأقضية، باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان، (رقم الحديث1717)، ج 3، ص 1342.

[2] وهو ابن دقيق العيد، كما هو ظاهر.

[3] ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي بن محمد (ت 852 هـ)، فتح الباري شرح صحيح البخاري، تح محمد فؤاد عبد الباقي وعبد العزيز بن عبد الله بن باز ومحب الدين الخطيب، دار المعرفة، بيروت، 1379 هـ، ج 13، ص137 – 138.

[4] العيني، محمود بن أحمد بن موسى (ت 855 هـ)، عمدة القاري شرح صحيح البخاري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج 24، ج 234.

[5] ابن بطال، علي بن خلف بن عبد الملك (ت 449 هـ)، شرح صحيح البخاري لابن بطال، تح أبي تميم ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد، الرياض، ط 2، 1423 هـ – 2003 م، ج 8، ص 225.

[6] البخاري، صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان، (رقم الحديث 7158)، ج 9، ص 65.