تمر اليوم(9 مارس) الذكرى الحادية والعشرون على وفاة العلامة الكبير الشيخ محمد الغزالي، والتي تواكب العام الأول بعد المائة لمولده. وهذا المقال تحية للغزالي، وتذكير بمنهجه في فهم الإسلام، ولماذا اختار الإسلام ديناً بالاقتناع والعقل والقلب بعد أن ورثه بالولادة والتلقي التلقين عن أبويه ومجتمعه المسلم في ريف مصر في قرية نكلا العنب بمحافظة البحيرة.

عاش الغزالي- رحمه الله- مرهف الحس، رقيق الشعور، جياش العاطفة، لا يملك نفسه عندما يتحدث عن الله، أو عن هموم أمته، وما يلبث السامع له إلا ينهمر دمعه تأثراً بإخلاصه، الذي هو جزء من رشح عقيدة التوحيد في قلبه.

وكان همه الأول والأخير كداعية، وموضوع رئيسي في كل أعماله، ربط الناس بخالقهم وتعميق إيمانهم به، والتدليل على دور عقيدة الإسلام في تحرير الروح الإنسانية والإسلامية من أغلال الشرك المؤدي لكل الموبقات الموقعة في المعيشة الضنك لأبناء آدم. ولهذا كان فهم الإسلام ولماذا اختار الإسلام ديناً جزءاً من كتاباته.

الدين: من الوراثة إلى الشك

يقول الغزالي، في معرض مناقشته لقضية إيمانه بالإسلام، وتطوراته من التلقي السلبي إلى اليقين القلبي والعقلي “لقد ورثت الدين عن أبوي كما ورثت اللغة، أي بالتلقي والتلقين، اللذين لا يصحبهما طويل تأمل أو إعمال فكر. ثم مرت بي مع فترة المراهقة حالة شك، اجتاحت كل ما أعرف، وجعلتني أناقش-في حرية أدنى إلى الجرأة- مواريث الإيمان والفضيلة-، وتقاليد الحياة العامة والخاصة ولا أدري كم بقى هذا الشك؟

خلاصة رحلة الشك

ولأن العاقل يستحيل أن يعيش طول عمره أو أغلبه شاكاً تحيره الريب-كما يقول رحمه الله-، فقد انتهت حالة الشك، تلك، إلى نتيجة حاسمة، فقد خلص الغزالي من هذه الرحلة، بأن الله حق. واستبعد-وهو مطمئن-كل افتراض بأن العالم وجد من تلقاء نفسه، أو وجد دون إشراف أعلى. ثم شرع ينظر في الإسلام ويقارنه بالمسيحية التي انتشر مبشروها في بلادنا في ركاب الاستعمار الإنجليزي.

بين الإسلام والمسيحية

ففي تلك المرحلة من حياته، وقعت في يده كراسات صغيرة وزعها مبشرو النصرانية، الذين نشطوا لأداء رسالتهم في بلادنا، أيام سطوة الاستعمار الغربي عليها. لكنه وجدها مجرد طفولة فكرية، لا يمكن لعقل عرف الله من خلال  القرآن وسيرة الرسول-صلى الله عليه وسلم- وسنته أن يقبلها، لكن حب الاستطلاع، جعله يستقصي هذه النشرات جميعاً. فربما يكون مخطئاً، ويكون هؤلاء المبشرون على صواب ؟

واحتشد لها واستعد، بكل ما أوتي من علم ومعرفة له-في ذلك الوقت- ،ليقرأها بدقة ويناقش ما فيها لعله يقبلها أو يرفضها، لكنه سرعان ما اكتشف أنها لا تستحق أي عناء في قراءتها أو مناقشتها. وتلاشى في هدوء أي خاطر  حول صحة ما يكتبه هؤلاء عن الله والدين والمسيح عيسى بن مريم، بعد ما قارن بين رسالة عيسى كما وصفها القرآن، وبين هذه الرسالة نفسها كما يصفها الأتباع المسحورون، فوجد سياق القرآن أحكم، ووجد ما عداه أبعد عن منطق العقل وعن أسلوبه الحاسم في النقد والتمحيص.

من التقليد إلى الاقتناع

وبدأت مرحلة جديدة في حياة الغزالي الإنسان المسلم، بدأ يخرج فيها من الإسلام التقليدي، ليكون المسلم المقتنع بدينه وعقيدته، اقتناعاً يقوم على البحث والموازنة والتأمل والمقارنة. وصار كل يوم يمر به يزيده حباً للإسلام، واحتراماً لتعاليمه، وثقة في صلاحيته للعالمين، وجدارته للبقاء أبد الآبدين.

جذور الإيمان الإسلامي

ويعيد الغزالي-رحمه الله- جذور هذا الإيمان إلى كثرة إدمان البصر في الكتاب والسنة، مع إدمان البصر في الوقت نفسه إلى آفاق الكون والحياة.

ليس ديناً غامضاً

فالإسلام، كما يقول الغزالي، ليس ديناً غامضا ًحتى يحتاج في فهمه وعرضه إلى إعمال الذهن وكد الفكر. إن آيته الأولى: هي البساطة. وميزته التي سال بها في الآفاق: هذه السهولة البادية في عقائده، وشعائره وسائر  تعاليمه.

وهو يقول معبراً عن نفسه وملايين المسلمين البسطاء قائلاً” “أنا أحد الألوف المؤلفة التي تؤمن بالله العظيم، وتسبح بحمده، وتقر بجلاله ومجده، وتنتعش بنعمته رفده. ولقد عرفت هذا الإله الكبير عن طريق النبي العربي المحمد، قرأت كتابه، ثم درست سيرته، فتجاوبت فطرتي مع رسالته، واستراح فكري وقلبي إلى دعوته، وأصبحت واحداً من جماهير ضخمة رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد-عليه الصلاة والسلام- نبياً ورسولاً”.

بيت الداء في تشويه الإسلام

يؤكد الغزالي-رحمه الله، بعد طول معاناة في حقل الدعوة، إن الإسلام لم يصب في ميادين الحياة من شيء، مثلما أصيب من هذه الأثواب المزورة التي أُظهر فيها، وتلك التشويهات الزرية التي ألصقت به.

ومن أهم تلك الأثواب المزورة، عشرات الكتب التي ألفت في عصور مختلفة، والتي لم  يعد منها بطائل. بل خرج منها وهو بحاجة إلى ما ينظف ذهنه كما يحتاج الجسم إلى حمام ساخن بعد دلكه من الغبار والأوساخ.

فقد ضاق الغزالي، ذرعاً، بتلك الكتب الإسلامية التي طالعها في صدر حياته، لما شابها من لغو وتخليط وخرافة. وكان يسخر من بعض فصولها، ويرفض الإذعان لها. وعلم-بعد- أنه كان على حق في هذا التحدي، فقد كانت هذه الكتب في واد، والقرآن الكريم والسنة المطهرة في واد آخر.

وهو لذلك يشير إلى أن مئات الكتب في التفسير والحديث والأدب والتاريخ مخلوطة بسموم ناقعة، وخرافات سمجة تتداولها ألوف الأيدي، ويقرؤها من يعي من لا يعي. وأن هذه الكتب، السفيهة الزائغة، قد كثرت حتى غلبت الثقافة الدينية الصحيحة. حتى جعلت غالب من طالعها وتعلم من خلالها من الأجيال المتأخرة من المسلمين، خلال القرون الأخيرة، يسيرون متعثرين لا تشدهم وجهة، ولا تدفعهم قوة، لأن الثقافة التي صنعتهم لا تنتج إلا نفوساً خاملة وعقولاً شائهة.

معرفة جديدة بالإسلام: كيف؟

ومن موقع العالم والداعية، يرى الغزالي، أن خير درس في تعريف الله إلى الناس وتعليمهم عقائد دينهم، أن ننتقل بهم إلى مشاهد الكون، فنذهب بالطلاب إلى حديقة نضرة، أو حقل مهتز، ثم نلفت أنظارهم إلى ما انشقت عنه الأرض من أغراس وأعواد. فالعقائد التي أسسها الإسلام تتسم بالبساطة والوضوح والقوة، وهي تتخذ طريقها إلى العقل والقلب ذلولاً قويماً، إن وجدت طرق التعليم القائمة على التفكر في الكون ومخلوقات الله.

وهو يدعو إلى وجود “جهاز” غيور حصيف، يتتبع الأباطيل التي تمتلئ بها كتب العقيدة والتعريف بالإسلام لإزالتها، فإن لم يستطع إزالتها من مواضعها، فعلى الأقل تضع ألف علامة حمراء للتحذير منها، والتنبيه إلى دخلها وفسادها.

فالأجيال الجديدة، من المسلمين، فقيرة إلى معرفة الإسلام، بلغة طيعة ودلالة قريبة. وربما كانت الكتب القديمة مفيدة في العصور التي ظهرت فيها، وربما كانت المشكلات التي تناولتها مما يعني أناسا مضوا، ومضت معهم أزماتهم الروحية والمادية.

وأبناءنا وإخواننا، في هذه الأيام، بحاجة ملحة إلى أن يعرفوا دينهم معرفة تملأ الفراغ النفسي الملحوظ، وتدحض الشبهات التي اختلقها سماسرة الإلحاد والتحلل، بعد زحف الاستعمار الأخير على بلادنا(ترى ماذا كان سيقول لو عاصر ما نعاصره ونعانيه في أيامنا الراهنة من محن للإسلام على يد أبنائه). لذلك، دعا الغزالي، المسلمين إلى ضرورة أن يستقوا عقائدهم، تصوراً وتصويراً، من القرآن وحده.

 خاتمة

محمد الغزالي السقا، فتى وهبه أبوه لخدمة الإسلام. وقد ضاق ذرعاً بحياته العلمية الأولى، لما رآه من ازدراء الناس في زمانه للأزهريين، لكن عناية الله التي كتبت في الأزل الغزالي داعية إلى الله، حفظته من سلبيات تلك المرحلة، وطفق يقرأ ويتعلم بروحه العالية، وقلبه الرقيق، وعاطفته المتدفقة في تراثنا الإسلامي، بعين ناقدة وقلب مؤمن، فصار مؤمناً حقاً عن محبة واقتناع، وصار داعية للإسلام يعرف حق الدعوة وواجباتها ومترتباتها، فأصبح محمد الغزالي الذي نعرفه اليوم. وحق علينا أن يعرفه ناشئتنا من أطفال وشباب المسلمين.

وفي ذكرى وفاته، ندعو كل مهتم بتحصين أبناء الإسلام عقيدة وخلقاً، للعودة لترث الغزالي الغني، فهو من أسهل الأبواب المشرعة على الإسلام الحق، والعمل على تبسيط كتب الغزالي للأطفال والناشئة في العقائد والأخلاق والآداب واللغة العربية وفي تعميق الانتماء للأمة المسلمة، فهي خير معين لهم للتمسك بإسلامهم والتعمق فيه.

فكتابات الغزالي، تحول العقيدة إلى خطاب يتملك العقول والقلوب، ليتحول إلى سلوك ونظام قيم. وهي في بساطتها وقوة حجتها، مناسبة جداً لشبابنا وناشئتنا وقادرة على الوصول إلى وجدان وعقول وممارسات شبابنا وناشئتنا.

رحم الله الغزالي في الكبار الذين سيحيون طويلاً في ضمير وحياة أمتهم