هذه قضية مهمة تتطرق للعلاقات الإنسانية التي تشيع في المجتمعات، من العلاقات الأسرية والعائلية، بل وعلاقات الصداقة.. لِنَتساءل: لماذا تسير هذه العلاقات على غير هُدَى، وتتعثر في خطواتها البينية، وبمشكلاتٍ زائفة أو تافهة، كثيرٌ منها مِن صنع الشيطان ووسوسته، ومن ضيق العقول وعدم نضجها؟!

ثم نُتبع ذلك بتساؤل آخر، هو: ألا يؤثر ذلك في المطلوب من هذه المجتمعات تجاه آمالها وطموحاتها، على مستويات أخرى؛ سواء في “العلاقة بين الحاكم والمحكوم” وما ينبغي أن تكون عليه من الشفافية والندية والمشاركة، أو في العلاقة مع “المسألة الحضارية” وما يبنغي أن تكون عليه من وعي وفاعلية ونهوض وعمران؟

وأستطيع القول، ومن واقع المعاناة مع كثيرين، بأن تعثر مجتمعاتنا في مشكلاتها البينية، لاسيما على مستويات الأسرة والعائلة.. أن هذا التعثر بات ظاهرة مقلقة، بل أصبح الأصلَ في هذه العلاقات، حتى لا تكاد تخلو أسرة أو عائلة من منغصات اجتماعية، ومخاصمات وتدابرات.. والمؤسف حقًّا، أن كثيرًا من هذه المشكلات هو مما يمكن تجنبه، أو معالجته وبأيسر الحلول؛ لو صَفَتْ النياتُ، وسلمت الصدور، ولم نقعد من بعضنا البعض مقعد التربص والترصد!!

وأنا لا أنظر لهذه المسألة في إطارها الديني والأخلاقي فحسب، كما هو شائع- رغم أهمية ذلك طبعًا- وإنما أنظر إليها أيضًا في إطارها الحضاري والنهضوي.. كما سيأتي في هذا التفصيل..

في الإطار الديني

لا يفوتنا أن نلاحظ حِرص الإسلام على تكوين مجتمع متماسك الصف، مترابط العُرى، يعيش جسدًا واحدًا، لا مكان بين أفراده للتشاحن والتدابر.. كما حذر الإسلام من كل ما يُضعف ذلك، ويُفسح للشيطان مدخلاً بين المؤمنين؛ من الغِيبة والنميمة وسوء الظن والتجسس..

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (الحجرات: 12). وقال صلى الله عليه وسلم: “إيَّاكم والظَّنَّ؛ فإنَّ الظَّنَّ أكذب الحديث؛ ولا تحسَّسوا، ولا تجسَّسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا؛ وكونوا عباد الله إخوانًا” (1).

فالإسلام يريد أناسًا اجتمعوا على “كلمة التوحيد” لله تعالى، وعلى “توحيد الصف” فيما بينهم.. وشَرَعَ لذلك فرائض، وندبَ إلى نوافل، وسنَّ توجيهات؛ مما ليس مقام تفصيله.

في الإطار الأخلاقي

ينبغي أن تحظى الأخلاق بمكانة عظيمة لدى الأفراد والمجتمعات؛ لأن الإنسان تقاس إنسانيته بمدى ما يتحلى به من أخلاق، خاصة في المستوى الذي يعم الناسَ جميعًا ولايفرق بينهم بسبب لون أو جنس أو دين..

الأخلاق مكفولة للجميع، ويجب أن تكون مبذولة للجميع.. ودائرة الأخلاق يجب أن تتسع لتشمل الناس جميعًا؛ فتحفظ لهم حقوقهم وأعراضهم، ولا يُستحَل شيء منها إلا بحقه!

وإنسان بلا أخلاق قد لا يستحق أن يوصف بـ”الإنسان”! بل إنه يتحول حينئذٍ إلى ذئب أشد فتكًا من الذئب الحقيقي الذي لا يُلام على ما يرتكب من حوادث!

وإذا تغيرت شرائع الأنبياء، أو اختلفت قوانين الناس؛ فإن الأخلاق أمر ثابت وسط هذا التغير والاختلاف.. وكم كان النبي صلى الله عليه وسلم من الدقة بمكان، حين قال: “إنما بُعِثتُ لأتممَ مَكارِمَ الأَخْلاقِ(2)، ولم يقل: لأنشِئَ؛ فإن الأخلاق جامع مشترك بين الشرائع، وجامع مشترك أيضًا بين ذوي الفِطَر السليمة.. وما جاء الإسلام إلا ليتمم ما تَرَاكَمَ منها على مدار مسيرة البشرية، وهو كثير وكثير..!

ولهذا، فالأخلاق ضرورةٌ من ضرورات المجتمعات، وسبيلٌ إلى وحدتها وتماسكها..

في الإطار الحضاري والنهضوي

وهذا الإطار هو ما نريد لفتَ النظر إليه بدرجة أكبر. وهنا أتساءل: مجتمعات مفككة العلاقات، ومهلهلة الروابط، ومنشغلة أو متعثرة بعلاقاتها البينية؛ متى تتفرع لهمومها الكبرى؟ ومتى تَمدّ بصرها إلى آفاق عليا؟ ومتى تُسهم في بنائها الحضاري وتُسابِق الأممَ من حولها؟

لا شك أن هذا التعثر مانع من ذلك كله؛ فإنه يورث حقدًا وضغائن تجعل الأفراد مكبَّلين في هومهم الشخصية، غيرَ مُلتفتِين لـ”الهمّ العام”، ولا مقدِّرين لمعاني البذل والعطاء والتضحية والبناء والتفاعل والتشارك.. تلك المعاني اللازمة لمجتمع متماسك مترابط، يأخذ فيه أفراده بأيدي بعضهم البعض، ويتعاونون، ويتشاركون، ويتقاسمون الهموم والآمال.

لَكأنّي أرى مستفيدًا من هذا التعثر في العلاقات، والتشاحن في الصدور، والتباغض في القلوب! ومَن يسعى لتعميق ذلك، بسبب مباشر أو غير مباشر!.. فإن التضييق على الناس في أرزاقهم مُوجِبٌ لتنافرهم ولتباغضهم ولتحاسدهم.. وهذا الأمر، يجعل الناسَ ينشغلون فيما بينهم، لا على إزالة أسباب هذا التضييق، وإنما للتحاسد والتدابر، وربما لاختلاس ما في أيدي بعضهم البعض؛ بدلاً من اتحادهم على المطالبة بحقوقهم، والأَخْذِ على يد مَن يفرّق بينهم.

فمجتمعات تنشغل بـ”المسألة الاجتماعية”؛ على هذا النحو من التمزق والتفكك.. لن تلتفت إلى “المسألة السياسية”؛ وما تتطلبه من بذل وتماسك واتحاد.. ولا إلى “المسألة الحضارية”؛ وما تستلزمه من وعي ورقي وسمو، ومن تعالٍ على الذات الفردية باتجاه الذات الجماعية، ومن مفارقةٍ للصالح الشخصي إلى الصالح العام!

مَن ينشغل بالصغائر، ويدور في حظوظ النفس، ويلهث خلف معارك وهمية أساسها القِيل والقال.. متى يجد وقتًا يمنحه لنفع المجتمع، وطاقةً يبذلها لخير الناس!!

وما أجمل ما ذكره أبو الفرج الأصفهاني من ربطٍ بين الأخلاق والعمران، في تفسير قول الله تعالى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (البقرة: 27)، إذ يقول: “فإن القوم إذا أحبوا وعدلوا تواصلوا، وإذا تواصلوا تعاونوا، وإذا تعاونوا عمروا، وإذا عمروا أمروا؛ وبالعكس إذا تباغضوا وظلموا تدابروا، وإذا تدابروا تخاذلوا، وإذا تخاذلوا لم يعمل بعضهم لبعض فهلكوا؛ ولهذا قال عليه السلام: “لا تقاطعوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا كما أمركم الله”… ولذلك حثنا على الاجتماعات في الجماعات والجُمعات، لكون ذلك سببًا للألفة. بل لذلك عظّم الله تعالى المنة على المؤمنين بإيقاع الألفة بين المؤمنين، فقال تعالى: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} وقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}. وليس ذلك في الإنسان فقط؛ بل لولا أن الله تعالى ألّف بين الأركان المتضادة، لَمَا استقام العالم؛ ولذلك قال عليه السلام: “بالعدل قامت السماوات والأرض”(3).

ولهذا، فإن التفاتنا لما تتعثر فيه مجتمعاتنا من مشكلات بينية؛ يبنغي أن ينطلق- بجانب المنظور الديني والأخلاقي- من المنظور الحضاري والنهضوي.. وأن يَحشِدَ لتقوية الصف وتمتين النسيج الاجتماعي كلَّ القوى التربوية والدعوية، وأن يطلق المبادرات والفعاليات لذلك..

كفانا فرقة وتباغضًا وانسياقًا خلف وسوسات الشياطين وحظوظ النفس.. وعلينا أن نُعلي قيم التراحم والتماسك والتغافر، ونتعالى على الشخصنة والفردية والأنانية.. فإن ما علينا من واجبات، وما ننشده من تطلعات؛ لا يستقيم معه هذا التعثر في الخطوات البينية!!


([1]) متفق عليه، من حديث أبي هريرة.

([2])  رواه أحمد، من حديث أبي هريرة. وصححه الألباني.

([3]) تفسير الراغب الأصفهاني 1/ 131، 132.