هذه مسألة قديمة بدأت مع نمو وتعاظم دعوة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – واستمرت وتطورت مع الزمن حتى يوم الناس هذا، وإلى ما شاء الله لهذه المسألة أن تستمر. وقد كانت محاولات اليهود والنصارى استمالة النبي الكريم إليهم كثيرة ومتنوعة. كل فريق اجتهد بطريقته ورؤيته الخاصة، ولحاجات في نفوسهم بالطبع.

لكن القرآن، وهو يتنزل بشكل مستمر في تلك الفترة، كشف ما بنفوسهم للنبي الكريم وأصحابه، حتى صارت المسألة أشبه بقاعدة لهذه الأمة وإلى يوم الدين، خلاصتها أن هاتين الملتين – وربما من في صفهما اليوم ومستقبلاً – لن تصل علاقتنا بهم مهما تطورت، إلى مستوى الرضا، لا من طرفهم ولا من طرفنا. ولتلك المسألة أسبابها.

إن خطابات ودعوات التعايش مع الغرب على وجه الخصوص، والتي تُطرح بين الحين والآخر من الطرفين أو المعسكرين إن صح التعبير، المعسكر المسلم والمعسكر غير المسلم، كثيرة ومتنوعة. لكن مع كثرتها، تجدها دوماً شائكة وغير يسيرة. ذلك أن الاختلاف بين المعسكرين عميق وكبير، وإن بدت أحياناً أن هناك تفاهمات ومصالح مشتركة ظاهرة، لكنها في حقيقة الأمر لا شيء مقابل الاختلافات العميقة القائمة بين الطرفين، منذ بداية ظهور الإسلام وإلى ما شاء الله أن تقوم وتبقى، وبالتالي تجد أن الأمر شديد الصعوبة في التطبيق، أو بلغة اليوم، تطبيع العلاقات.

وقد تتساءل عن المشكلة وأين تكمن؟

فتكتشف أن المشكلة بكل اختصار أيضاً، كامنة في مفهوم كل طرف للتعايش. والمفاهيم عادة تنشأ من معتقدات وقيم وأعراف وثقافات، فما يعتقد بصحته المعسكر الغربي مثلاً، ليس شرطاً أن يكون كذلك في المعسكر المسلم والعكس صحيح.

تعايش مقابل تنازلات

لا يمكن التوصل لمفهوم واضح محدد مقبول للتعايش من الطرفين، ما لم يقدم طرف أو كلاهما تنازلات، عادة ما تكون أليمة. أو يحدث تعايش بشكل ما بسبب ضغوط، ولكن من الطرف الأقوى على الأضعف لأجل القبول برؤيته هو، واعتبارها منطلقاً لبدء تعايش ما. وبطبيعة الحال، لا يمكن أن تستمر مسألة هذا حالها، طويلاً. لماذا؟ لأنها قامت على غير أساس متين، ولأنها غير عادلة ولا متكافئة، وبالتالي سرعان ما يعود الصراع بين الطرفين.

إن ما يهمنا الآن في هذا المقام، هو التعرف على رؤية وطريقة المعسكر المسلم في التفكير والتعامل مع هذه المسألة، وهي واضحة جلية، لا تحتاج لكثير شروحات وتفصيلات. ويتمثل هذا الوضوح في عدم إمكانية التعايش طويلاً مع معسكر يختلف عميقاً معك. لأنه وبالرجوع لدستور الأمة، القرآن الكريم، فقد أوضحت آية (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) هذه المسألة. وستجد بشيء من التأمل في الآية وتفسيراتها، أن الأمور واضحة ولا تحتاج لكثير عناء في شرح وتحليل وتفصيل.

من ذلك ما جاء في تفسير الطبري لهذه الآية أنه “ليست اليهود، يا محمد، ولا النصارى براضية عنك أبداً، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق، فإن الذي تدعوهم إليه من ذلك لهو السبيل إلى الاجتماع فيه معك على الألفة والدين القيم. ولا سبيل لك إلى إرضائهم باتباع ملتهم، لأن اليهودية ضد النصرانية، والنصرانية ضد اليهودية، ولا تجتمع النصرانية واليهودية في شخص واحد في حال واحدة، واليهود والنصارى لا تجتمع على الرضا بك، إلا أن تكون يهودياً نصرانياً، وذلك مما لا يكون منك أبداً، لأنك شخص واحد، ولن يجتمع فيك دينان متضادان في حال واحدة”.

إنها مسألة دين وعقيدة

المسألة إذن دين وعقيدة ومفهوم لا يمكن تغييره، مهما حاول أصحاب خطابات التعايش والتطبيع من الطرفين الترويج إلى غير ذلك. هناك عدم رغبة من المعسكر الغربي في الاقتناع بهذا الدين، مهما بدت لهم مبادئه وتعاليمه سمحة، وعادلة واضحة. نحن بالنسبة لهم أشبه بعائق أمام رؤاهم للحياة، وكيفية سياستها وسياسة الناس فيها، وشواهد من تاريخنا مع الملتين كثيرة.

مثلما كانت الأمة الإسلامية سبباً في توقف وزوال حضارة الروم والفرس وغيرهم قديماً، بحسب سنن وقوانين التغيير في الأرض، فإنها اليوم، ومهما بدت ضعيفة متهالكة، تملك قابلية النهوض من جديد، لتكون حجر عثرة أو عقبة أمام استمرار سيطرة الغرب أو المعسكر غير المسلم على الحياة بشكل عام، وإلى ما لا نهاية. وتلك هي العلة الأصيلة كما يقول سيد قطب في تفسيره للقرآن. إذ “ليس الذي ينقصهم هو البرهان؛ وليس الذي ينقصهم هو الاقتناع بأنك على الحق، وأن الذي جاءك من ربك الحق. ولو قدمت إليهم ما قدمت، ولو توددت إليهم ما توددت. لن يرضيهم من هذا كله شيء، إلا أن تتبع ملتهم وتترك ما معك من الحق”.

ويواصل صاحب تفسير الظلال شرح الآية قائلاً: “إن العقدة الدائمة التي نرى مصداقها في كل زمان ومكان. إنها هي العقيدة. هذه حقيقة المعركة التي يشنها اليهود والنصارى في كل أرض وفي كل وقت ضد الجماعة المسلمة”.

التعايش لا يعني التبعية

المعسكر غير المسلم لاسيما التجمع النصراني اليهودي، صاحب حضارة قوية مؤثرة. قوته اليوم تخوله فعل ما يريد وقتما يريد. يتحرك بمنطق القوي ذي البأس في العالم. هذا المنطق يدفعه للتحرك وفق مقتضيات محددة عنده، لا يهمه أن تتوافق رؤاه مع غيره، حتى على سبيل الافتراض أن العالم كله يعمل معاً ضمن منظومة واحدة هي ما تسمى بالأمم المتحدة. لكن الواقع العملي يختلف تماماً عن النظري أو المفترض أن يكون. الغرب يتحرك بناء على مصلحته وليس مصلحة آخرين.

خطابات التعايش بين الغرب، بقسميه النصراني واليهودي، وبين المسلمين، وبحسب مفهوم القوة الذي نتحدث عنه، أحسبها تحتاج لصياغة جديدة، وفهم أعمق لمفهوم كل طرف للتعايش. التقارب الحاصل اليوم مع الغرب بكل معسكراته، وفي كثير من المجالات، ما هو إلا رغبة في مصالح مادية مؤقتة. وحالما تتحقق لهم نتائجها المرغوبة، فإن التخلي عنك لن يكون صعباً في أي وقت يشاؤون.

لا شيء في أن تتعايش مع الأقوياء، لكن أن تكون مثلهم في القوة والبأس والندية، وإلا فإن ذاك التعايش لا يسمى تعايشاً تتساوى الأمور بين المتعايشين معاً في الحقوق والواجبات، بل هو أقرب إلى أن يكون تبعية ذليلة، حتى وإن لم تظهر على السطح مظاهرها بشكل واضح جلي. لكن الرغبة التاريخية لدى ذاك المعسكر في تحويلك لتابع سلبي، أو ذليل لما هم عليه من فكر وقيم وثقافة، هي أحد شروط تحقق رضاهم عنك. وحين يرضى أولئك عن المعسكر المسلم، فاعلم حينها أنه قد حاد عن جادة الصواب والصراط المستقيم، وتحقق هدف ومبتغى المعسكر المقابل، الذي يسعى إليه منذ عهد الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، لا يكل ولا يمل !

وأحسبُ أن الذي يحدث الآن في العالم الإسلامي من تمييع للدين والفكر والقيم والأعراف والثقافة بشكل عام، وبوتيرة متسارعة غير مألوفة، هو جزء من سيناريو التحكم بمفاصل هذه الأمة، من أجل دفعها نحو تبعية ذليلة لأطول فترة ممكنة، الأمر الذي يستوجب حملات تنبيه وتوجيه وإرشاد متنوعة مستمرة، يكون للعلماء الربانيين دورهم المؤثر، وبالمثل النخب المثقفة الحرة غير المدجّنة، من إعلاميين وكتّاب ومفكرين وغيرهم. فالمعركة طويلة، وسنّة التدافع واقعة لا محالة، بل لابد أن تقع، فالحق أحق أن يُتبع ويسود الأرض.. والله سبحانه دوماً كفيل بكل جميل، وهو حسبنا أولاً وأخيراً، ونعم الوكيل.