انتشر ذكر علم المقاصد كأحد العلوم الشرعية المهمة بشكل ملفت في عصرنا الحالي خلال القرون الثلاثة الأخيرة، وانبرى له العلماء بالتصنيف والتقعيد، وتوسعت تطبيقاته في مختلف مجالات الحياة، وتأسست حركات علمية وجهود فكرية مختلفة لمناقشة جوانب هذا الفن الندي، اعتنى بعضها بجوانب التنظير، وبعضها الآخر بمجالات التنزيل والتطبيق، ولكل منهما رواده من المعاصرين، وهذا العلم وإن بدت شهرته في عصرنا هذا، واعتمد كوسيلة لإنقاذ حضارة الأمة الإسلامية من حالات الركود والضعف المتزامنة مع سقوط دولة الخلافة الجامعة، انتهاء إلى حوارات علمية حول إبراز الحِكم الشرعية في الأحكام الجزئية، إلا أنه ليس علما وليد الساعة، كان الفقهاء خصوصا أهل الاجتهاد منهم يتفنون في هذا العلم، ويغوصون أعماقه، يكتنه ذلك من راجع كتب التراث، وأفرد بعض السلف له تصانيف رامت أصوله، وحددت غايته، منهم الجويني والعز بن عبد السلام والشاطبي في الموافقات، والقرافي في الفروق وغيرهم.

وللإجابة على حاجة الأمة إلى علم المقاصد في شؤونها الحياتية فإنه لا بد أن نتعرف أولا على المقصود من علم المقاصد مختصرا، ثم مكانته في التشريع الإسلامي، وما هو العائق الذي يعترض المثقف من هذا العلم ؟

المقاصد حين تطلق تداخلها قضايا متعددة منها غايات الحكم (قصد الشارع)، والحكم ذاته، ونية المكلف أو قصد المكلف.

حين يطلق علم المقاصد فإنه تتنازعه استعمالات متعددة، يراد به تارة غايات الأحكام الشرعية وعللها، وتارة يراد به أحكاما تحقق المصلحة، وتارة ترادف نوايا المكلفين وغاياتهم. لذلك شملت مؤلفات المقاصد هذه الجوانب الثلاثة بتفاصيلها ومضامينها.

 وعلى الاستعمال الأول – يكون المقصود بالمقاصد الشرعية مراد الله سبحانه من الخلق، إشارة إلى الغاية والأسرار التي من أجلها خلق الله العباد، وشرع لهم أحكام دينه. وهذا المعنى هو ما اختاره ابن عاشور وعلال الفاسي بعباراتهم المختلفة، وهو الذي يفهم من تعريف الإمام الغزالي للمصلحة حين قال: نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشارع، ومقصوده من الخلق.

وتطلق المقاصد الشرعية بالاستعمال الثاني على الأحكام الشرعية ذاتها من حيث اشتمالها على المصلحة تحقيقا وعلى المفسدة درءًا. وفيه يرى القرافي أن الأحكام الشرعية تنقسم إلى مقاصد ووسائل، فالمقاصد هي المتضمنة للحكم في نفسها، والوسائل تابعة للمقاصد من حيث إفضائها إلى مقاصدها، وتأخذ حكمها من حيث الوجوب أو غيره.

ويضرب مثالا بالحج فاعتبره مقصدا والسفر إليه وسيلة، وإعزاز الدين ونصر الكلمة مقصد والجهاد وسيلة، وتحريم الزنا مقصد لاشتماله على مفسدة اختلاط الأنساب، وتحريم الخلوة والنظر وسيلة.  والاستعمال الثالث للمقاصد يرادف نوايا المكلفين وإراداتهم التي تؤثر على العبادات والمعاملات وغيرها، وهو ما أشار إليه الحديث المشهور (إنما الأعمال بالنيات)، والقاعدة المعروفة “الأمور بمقاصدها”.

ويظهر مما تقدم أن المقاصد حين تطلق تداخلها قضايا متعددة منها غايات الحكم (قصد الشارع)، والحكم ذاته، ونية المكلف أو قصد المكلف.

الواجب اعتبار الأدلة الكلية مع الجزئية، ومن أفتى أو حكم في أمر بنص جزئي معرضا عن كليه فهو مخطئ، وكذا من أخذ بكلي النص معرضا عن جزئيه فقد أخطأ

ومكانة علم المقاصد في التشريع الإسلامي عالية منيفة، فإنه أصول الشريعة وأدلتها الكلية كما اختار الشاطبي وبقية الأدلة الجزئية أو الخاصة للشريعة الإسلامية والقواعد المستنبطة منها إنما أتت لتقرير هذه الكليات العامة وتفصيلها، كما أن الكلية إنما انتظمت من الأدلة الجزئية.

فالأدلة الشرعية تنقسم في ذاتها إلى الكلية والجزئية، والكلية هي المحافظة على المصالح الثلاثة التي وضع الشرع لها، وراعاها الشارع في تصرفاته، والأدلة الجزئية هي ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع، وهي غير مستغنية عن كليات الأدلة، كما أن الكلية إنما تتكون من استقراء الأدلة الجزئية، فكان الواجب اعتبار الأدلة الكلية مع الجزئية، ومن أفتى أو حكم في أمر بنص جزئي معرضا عن كليه فهو مخطئ، وكذا من أخذ بكلي النص معرضا عن جزئيه فقد أخطأ. (الموافقات: 3/174).

وعلم المقاصد بالنسبة إلى الشريعة الإسلامية بمثابة روحها الذي به تنبض، وفلسفتها التي لا يمكن فهم الشريعة واستيعابها وتفسيرها إلا في ضوء مقاصدها، فإن المقاصد يقدم إجابات لثلاث أسئلة يقف عندها كل تشريع وهي:

السؤال الأول: ما مدى استجابة التشريع للقضايا البشرية المتجددة، وهو ما سماه بعض القدماء بالقضايا اللامتناهية كابن رشد .

السؤال الثاني: ما مدى ملاءمة التشريع الإسلامي للمصالح الإنسانية وضرورات الحياة؟

السؤال الثالث: ما هي المكانة الممنوحة للاجتهاد البشري المؤطر بالوحي الإلهي. (علاقة المقاصد بالأصول: 22).

وإجابتنا على هذه التساؤلات السابقة تبين لنا العلاقة التي تجمع المقاصد بالاجتهاد، فإن المقاصد بريد الاجتهاد، ومفتاح العلم المؤصل، وبوصلة التطور العلمي والثقافي للأمة، ألا ترى أن دعوى غلق باب الاجتهاد يوقف عجلة التطور والتقدم لدى الأمة، لكن حين نوظف المقاصد لحل الاشكاليات السابقة فإننا سوف نلامس ملامح الطريق إلى استكشاف التراث والتفقه عليه، لا للتوقف عنده بل لتجاوزه إلى بناء المستقبل البارق لعالمنا الإسلامي.

هذا العلم تخصصي من الطراز الأول، لا يمكن اتقانه واستيعابه إلا بعد التعمق في تفاريع العلوم الشرعية، بل هو علم آلة خاص للاجتهاد

لكن هذا العلم مع أنه مقرر في معاهد التعليم العالي في المجتمع الإسلامي لا يزال المثقف العادي يجده مرتقى صعبا غير هين، ولعل السبب يرجع إلى أسلوب التنظير المستغلق الذي سلكه المؤلفون في هذا المجال، أو الانطباع السلبي الذي أخذه المتعلم حين تربط قواعد هذا العلم بأصول الفقه، أو المصطلحات العلمية العالية التي يموجها مؤلفات هذا العلم، ويحتاج لفترة غير وجيزة لاتقانها، أو كون هذا العلم يدرس بعيدا عن أجواء التطبيق وشحذ همم الطلبة لتقصي حيثيات التطبيق المعاصرة.

وكل هذه الاحتمالات واردة وينطبق الأمر ذاته في علم المنطق وأي علم آلة، فإن الإيجاز الذي يسلكه المتخصصون في هذه الفنون العلمية يبلغ أحيانا حد الألغاز، يحتاج الطالب زمنا لفكها والتفقه على معانيها، فيقصر دونه الجهد، ويخيب أمله، ولعل من المناسب وضع مقدمة علمية مشروحة بلغة سهلة تناسب أي مثقف يريد أن يطلع على هذا العلم الجميل.

وإن مما لا شك فيه أن هذا العلم تخصصي من الطراز الأول، لا يمكن اتقانه واستيعابه إلا بعد التعمق في تفاريع العلوم الشرعية، بل هو علم آلة خاص للاجتهاد، وهذا لا يمنع طبعا بسط مقدمته للمثقف العام، والمتعلم في غير فن علم الفقه والأصول، ينهل منه، ويوسع به مداركه، من باب إدراك جزء الكل.

وأعتقد أن إجابتنا للسؤال المعنون لهذا المقال باتت واضحة، فإن سلامة الأمة وصحتها الحضارية والفكرية تقوى حين تحسن توظيف المقاصد في شؤونها الحياتية، وتستفيد من نتائج البحوث المقررة والمتكررة في الجامعات حول جزئيات المواضيع المتعلقة بالمقاصد.