اشتمل القرآن الكريم على معجزات علمية ومعرفية، يحاول العلماء إلى يومنا هذا تحليلها ومعرفتها، وسوف يؤدون ذلك إلى أن يرث الله الأرض، وإن كلمات الله تعالى وعلومه وإعجازه لا تنفد.

ومن المخلوقات العظيمة التي وضع الله فيها سر خلقه النمل، فهذا المخلوق يراه الإنسان وللوهلة الأولى بأنه أضعف المخلوقات، ولكن حينما يدقق ويفكر في هذا المخلوق يجد سر الله العظيم فيه، لهذا ذكره الله سبحانه وتعالى وأفرد له آيات عديدة في سورة اسماها (النمل) لأهمية وسر هذا المخلوق العجيب، متحدياً به من ينكر عظمته وحسن تدبيره.

قال تعالى: “وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ” (النمل ، آية : 17 ـ 19).

إن المتأمل لآيات القرآن الكريم في سورة النمل المتعلقة بقصة سليمان مع النملة يؤكد أن وقائعها قدمت بصورة حية ديناميكية وكأن القارئ يرى بعينيه هذه الأحداث والمعجزات ويعيشها ويتجلى لنا ذلك في:

وادي النمل

لقد أشار القرآن الكريم إلى أن النمل من المخلوقات الاجتماعية، تعيش متعاونة متكاثفة في مستعمراتها ويشعر كل فرد منها بشعور الآخرين، ويظهر ذلك في سلوك النملة وفي إنذار قومها.

ويعيش النمل ضمن مستعمرات يقوم ببنائها، وقد يتجاوز فتكون أعداد كبيرة من المستعمرات مدينة أو وادياً للنمل، كما سماها القرآن الكريم، حفرت فيها منازل النمل، تتخللها الشوارع والمعابر والطرق، وكل نملة تعرف طريقها إلى بيتها بإحساس غريب، وتشتمل كل مستعمرة من مستعمرات النمل على الطبقات والمرافق التالية:

– باب التهوية.

– مكان الحراسة لمنع دخول الغريب.

– أول طبقة لراحة العاملات في الصيف.

– مخزن إدخار الأقوات.

– مكان تناول الطعام.

– ثكنة الجنود.

– الغرف الملوكية حيث تبيض ملكة النمل.

– اسطبل لبقر النمل وعلقه.

– اسطبل آخر لحلب البقر.

– مكان تفقيس البيض.

– مكان تربية صغار النمل.

– مشتى النمل، وفي يمينه جبانة لدفن من يموت.

– مشتى الملكة.

ويمكن أن تصل أعماق مملكة النمل في بعض الأنواع التي تعيش في غابات الأمازون إلى (5 أمتار) واتساعها (7 أمتار)، تُنشئ النملات فيها مئات الغرف والأنفاق يُحفر وينقل قرابة (أربعين طناً) من التراب إلى الخارج إن الهندسة المعمارية للمملكة وحدها معجزة من معجزات الخلق.

أبقار النمل

ويضيف العلم الحديث حقائق جديدة عن أبقار النمل وزراعتها، فقد ذكر أحد علماء التاريخ الطبيعي وهو “رويال ويكسون” أنه ظل يدرس مدينة النمل حوالي عشرين عاماً في بقاع مختلفة من العالم، فوجد نظاماً لا يمكن أن نراه في مدن البشر، وراقبه وهو يرعى أبقاره، وما هذه الأبقار إلا خنافس صغيرة رباها النمل، في جوف الأرض زمناً طويلاً حتى فقدت في الظلام بصرها، وإذا كان الإنسان قد سخر عدداً محدوداً من الحيوانات لمنافعه، فإن النمل قد سخر مئات من الأجناس من حيوانات أدنى منه جنساً، ونذكر على سبيل المثال “بقّ النبات”، تلك الحشرة الصغيرة التي تعيش على النبات ويصعب استئصالها لأن أجناساً كثيرة من النمل ترعاها، يرسل النمل الرسل لتجمع له بيوض هذا البقّ حيث تعتني به وترعاه حتى يفقس وتخرج صغاره، ومتى كبرت درت هذه اليرقات سائلاً حلواً مؤلفاً من مواد سكرية يمكن أن نسميها بـ”عسل النمل”، ويقوم على حلبه جماعة من النمل لا عمل لها إلا حلب هذه الحشرات بمسها بقرونها، وتنتج هذه الحشرات 48 قطرة من العسل كل يوم، وهذا ما يزيد مائة ضعف عما تنتجه البقرة إذا قارنا حجم الحشرة بحجم البقرة.

جمع النمل للغذاء

ولأعضاء مجتمع النمل طرق فريدة في جمع المواد الغذائية، وتخزينها والمحافظة عليها، فإذا لم تستطع النملة حمل ما جمعته في فمها كعادتها لكبر حجمه، حركته بأرجلها الخلفية ورفعته بذراعيها، ومن عاداتها أن تقضم البذور قبل تخزينها حتى لا تعود إلى الإنبات مرة أخرة، وكي يسهل عليها إدخالها في مستودعاتها، وهناك بعض البذور التي إذا كُسرت إلى فلقتين فإن كل فلقة يمكنها أن تنبت من جديد مثل بذور الكزبرة، لذلك فإن النمل يقوم بتقطيع بذرة الكزبرة إلى أربع قطع كي لا تنبت، وإذا ما ابتلت البذور بفعل المطر أخرجتها إلى الهواء والشمس لتجف، ولا يملك الإنسان أمام هذا السلوك الذكي للنمل إلا أن يسجد لله الخالق العليم الذي جعل النمل يدرك أن تكسير جنين الحبة وعزل البذرة عن الماء والرطوبة يجعلها لا تنبت.

وجود لغة تفاهم بين النمل

اكتشف العلماء أن للنمل لغات تفاهم خاصة بينها، وذلك من خلال تقنية التخاطب من خلال الشفرات الكيماوية، وربما كان الخطاب الذي وجهته النملة إلى قومها هو عبارة عن شيفرة كيماوية ” قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ”، فقد أثبتت أحدث الدراسات العلمية أن لكل نوع من أنواع الحيوانات رائحة خاصة به، وداخل النوع الواحد هناك روائح إضافية تعمل بمثابة بطاقة شخصية أو جواز سفر للتعريف بشخصية كل حيوان، أو العائلات المختلفة أو أفراد المستعمرات المختلفة، والنمل يتميز برائحة خاصة تدل على العش الذي ينتمي إليه، والوظيفة التي تؤديها كل نملة في هذا العش. والرائحة تعتبر لغة خفية أو رسالة صامتة تتكون مفرداتها من مواد كيماوية أطلق عليها العلماء اسم “فرمونات”، ويتم إنتاج “فرمونات النمل” من غدة قرب الشرج.

وقد وجد أنه إذا دخلت نملة غريبة مستعمرة لا تنتمي إليها، فإن النمل في هذه المستعمرة يتعرفن عليها عن طريق رائحتها ويعدها عدواً، ثم يبدأ في الهجوم عليها، ومن الطريف أنه في إحدى التجارب المعملية وجد إن إزالة الرائحة الخاصة ببعض النمل التابع لعشيرة معينة ثم إضافة رائحة خاصة بنوع آخر عدوَّ له، أدى إلى مهاجمته بأفراد من عشيرته نفسها، وفي تجربة أخرى غمس نملة برائحة نملة ميتة ثم أعيدت إلى عشها فلوحظ أن أقرانها يخرجونها من العش لكونها ميتة، وفي كل مرة تحاول فيها العودة يتم إخراجها ثانية، تمت إزالة رائحة الموت، فقد تم السماح لهذه النملة بالبقاء في العش، وحينما تعثر النملة الكاشفة على مصدر للطعام فإنها تقوم على الفور بإفراز “الفرمون” اللازم من الغدد الموجودة في بطنها لتعليم المكان ثم ترجع إلى العش، وفي طريق عودتها لا تنسى تعليم الطريق حتى يتعقبها زملاؤها، وفي الوقت نفسه يضيفون مزيداً من الإفراز لتسهيل الطريق أكثر فأكثر.

ذكاء النمل

أشار القرآن الكريم إلى حقيقة علمية وهي ذكاء النمل وقدرته على المحاكمة العقلية والفكرية ومواجهة الأخطار وذلك من خلال هذه القصة التي حدثت مع نبي الله سليمان عليه السلام وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم، فقد استطاعت نملة صغيرة تحديد مكان سليمان والطريق الذي سوف يمر به، وهذا لم يكن ليتم لولا هذه القدرات الخارقة التي يتمتع بها النمل، ولقد كشف العلم الحديث عن بعض العجائب من سلوك النمل الذكي وتطور جهازه العصبي، فعند دراسته تحت المجهر يظهر لنا أن دماغ النملة يتكون من فصين رئيسيين يشبه مخ الإنسان، ومن مراكز عصبية متطورة وخلايا حساسة.

إن الله تعالى لم يذكر النمل في القرآن الكريم إلا ليلفت انتباهنا إلى عظمة وروعة هذه الكائنات التي يحسبها الإنسان مخلوقات تافهة، ولكنها بحق مخلوقات منظمة ذات قدرات خارقة، تعمل ضمن خطة عمل واضحة، حيث يوزع العمل على أفراد الخلية، فيقوم كل فرد من أفراد المملكة بواجبه على أكمل وجه، من خلال البرنامج الفطري الذي أودعه الله تعالى في دماغه.


1. سيف الدين الكاتب، دلائل الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، دار الشرق العربي، ط1، 2006م، ص: 479: 482.

2. علي محمَّد الصَّلابي، المعجزة الخالدة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 2013م، ص. ص 182 -185.