عاشت قطر شهراً كاملاً وقد امتلأت أجواءها ومؤسساتها وحواريها وشوارعها ومناطقها بعديد الفعاليات، الثقافية منها والاجتماعية والتجارية وغيرها، بالإضافة إلى الفعاليات الرئيسية وهي منافسات كرة القدم. حيث اختلط مئات الألوف من قارات العالم المختلفة بعضهم ببعض، وحدث تعارف وتآلف بين الشعوب، بعيداً عن مؤثرات إعلامية وسياسية وغيرها في جو غير مسبوق يستدعي التوقف بعض الشيء وتأمل بعض أبرز ما وقع خلال شهر المونديال.  

هذا الحدث الذي امتد شهراً كاملاً، أثار انتباه العالم قبل أن يبدأ ولسنوات عديدة فاقت العشر سنوات، وقد كاد من كاد لهذا البلد، وتآمر من تآمر، وصُرفت ملايين الدولارات هنا وهناك من أجل سحب التنظيم، حتى إذا صار السحبُ أمراً غاية في الصعوبة، تحول الجهد للتشويه وتعكير الأجواء قبيل انطلاق المونديال عبر ملفات عديدة، شاركت فيها دول ومؤسسات أممية بالإضافة إلى أفراد هنا وهناك.

 تم طرح ملف عمال منشآت كأس العالم، ثم ملف حقوق الإنسان، وبعده ملف الحريات وأبرزها وأكثرها دعماً أو صاحب صوت عال، ملف حرية الدعوة للشذوذ وما يتناقض مع الفطرة البشرية ويخالف الأديان والشرائع السماوية..

وهكذا ملف بعد آخر، حتى صار ما راهن كثيرون على عدمه، واقعاً معاشاً، وليبدأ أكبر حدث رياضي دولي في دولة عربية مسلمة لأول مرة في تاريخ هذه المسابقة، الذي بلغ أكثر من تسعين عاماً وسط ذهول المراهنين، الذين راحت ما أنفقوها من ملايين الدولارات على التحريض والتشويه والتحريف هباء منثورا.

إشارات لابد منها

من جميل ما يمكن الإشارة إليه بعد هذا التجمع العالمي الشعبي، هو حُسن استثمار مثل هذه التجمعات العالمية، التي يمكن من خلال فعالياتها المتنوعة التأثير في النفوس، وبناء صور ذهنية غاية في الصفاء والإيجابية لدى المشاركين فيها.. وهذا فيما رأيت وعايشت قد حدث فعلياً في قطر عبر مؤسسات الدولة المختلفة، وبمشاركة شعبية واسعة وفاعلة من المجتمع القطري، الذي تحدث كثيرون من الإعلاميين والمشتغلين في هذا المجال عما رأوه وعايشوه، وأنه خلاف ما كان في أذهانهم أو ما كان يثار في وسائل إعلامهم المختلفة.

التعامل الشعبي المحلي مع جمهور المونديال كان لافتاً للزوار، حيث كتب العديد منهم أو عبّر كل أحد بطريقته عن أخلاقيات الناس هنا وطبائعهم، والجو الآمن العام السائد في أحياء ومناطق البلاد ولله الحمد، على عكس كثير من بلدان الجمهور الزائر، بالإضافة إلى الكرم العربي الذي تجلى بشكل واضح خلال المونديال، سواء من لدن مؤسسات الدولة المتنوعة، أو من عموم أفراد المجتمع المحلي، عبر أنواع الضيافة التي قدمها كثيرون للجمهور الزائر، أو الخدمات الرسمية شبه المجانية للجمهور.

الأمن وضبط الوضع والسيطرة عليه مع حُسن التنظيم في دخول المنشآت الرياضية والخروج منها، والتنقل بينها وبين مرافق أخرى في الدولة، كانت من المناظر اللافتة جداً للجماهير الزائرة، والكثير من الإعلاميين وضيوف المونديال، بل ربما هي من أكثر ما أثارت الانتباه، باعتبار أنها مناظر لم وربما لن تتكرر في بطولات أخرى قادمة، وأقربها البطولة القادمة في 2026 التي ستكون فعالياتها موزعة بين ثلاث دول كبيرة بل هي قارة. أي أن ما استمتع فيها وشاهدها جمهور هذه النسخة الفريدة من المونديال، لن يكون بمقدوره الاستمتاع بها تارة أخرى، وأهمها مشاهدة أكثر من مباراة في اليوم الواحد بالحضور الفعلي.

 قل هذه سبيلي

 من أجمل ما يمكن الإشارة إليه خلال فترة المونديال، تلك الروح الإسلامية التي كانت حاضرة في مواقع مختلفة على صور وأشكال عدة، على رغم ضجيج الفعاليات الرياضية وغيرها، تقوم بدورها في توضيح ما استشكل وغمض وتضبّب على كثيرين من جمهور المونديال غير المسلمين، بل وبعض المسلمين أيضاً. فقد رأى كثيرون بعض مظاهر الحضارة الإسلامية من خلال فعاليات دينية تثقيفية قامت عليها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ومؤسسة كتارا، بالإضافة إلى جهود فردية من المجتمع المحلي. حيث رأى الجمهور الزائر الصورة الصحيحة للإسلام والمسلمين وبشكل يتناقض مع ما يسمعه ويشاهده في إعلامه المحلي أو العالمي.

بذل علماء ورموز وفعاليات إسلامية الكثير من الجهد في توضيح وتصحيح الصورة المشوهة للإسلام والمسلمين، وكانت ربما بعض نتائجها تحول أكثر من ثلاثة آلاف إلى الإسلام، الأمر الذي أغاظ أصواتاً نشازاً عربية وتحمل أسماء إسلامية، بل بعضهم أصحاب لحى وذي توجهات دينية !

اعتبروا مثل هذه الفعاليات ليس المكان المناسب للدعوة، على رغم علمهم التام من قصص السيرة النبوية الكريمة، بأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان حريصاً على استغلال موسم الحجّ في دعوة القبائل العربية إلى الإسلام، وكان يتحرّى أماكن تجمُّع الحجّاج، كالأسواق مثل سوق عُكاظ، وسوق مجنّة، وسوق ذي المجاز، وإن فعاليات المونديال لم تختلف عن تلكم الأسواق في فعالياتها. ومع كلّ الجهد الذي كان يبذله رسول الله في ذلك، إلّا أنّه لم تستجب أيّ قبيلةٍ لدعوته، بل ردّوا عليه بأسوأ ما عندهم، لكنه – صلى الله عليه وسلم – ما ترك تجمعاً أو احتفالية للعرب إلا وذهب بنفسه لعرض دعوته (فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُمُر النعم) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فما بالك وقد حصل عندنا ولله الحمد استجابة أكثر من ثلاثة آلاف زائر للدعوة، وتحولهم للإسلام ؟ 

النفاق الغربي

يمكن القول بأن الغرب انكشف أو كشف نفسه بنفسه، ولاحظ ذلك العالم كله دون كثير عناء. فالحملات الإعلامية الغربية التحريضية والمضللة، وتحديداً من أوروبا الغربية والولايات المتحدة ومعهم استراليا كذلك، أوضحت وكشفت النفسية الغربية تجاه الآخرين في هذا العالم، وتحديداً ضد كل ما هو عربي ومسلم.

تبين للعالم كيفية تعامل الغرب مع القضايا والأحداث، وأنها تخضع لمزاجية ما، وازدواجية واضحة في المعايير. فما يحدث حادث عندك مثلاً ويراه هذا الغرب مخالفاً للقيم والمبادئ الدولية، قد يحدث حادث مثله في موقع آخر، لكن الغرب يراه أمراً طبيعياً لا غبار عليه، ولا يستدعي أي نقد وما شابه !  والأمثلة أكثر مما يمكن حصرها وذكرها في هذه المساحة المحدودة، وكلنا شاهد وتابع وراقب طوال شهر كامل، نفاق الغرب الذي لن تستطيع آلته الإعلامية والثقافية بعد هذا من تغيير ما ترسخ في أذهان العالم.

زيف التطبيع

من الأمور اللافتة كذلك في المونديال، زيف ما يسمى بالتطبيع العربي الإسرائيلي. فلقد شاهد العالم كذلك، وعلى وجه التحديد، الإسرائيليون أنفسهم، كيف أنهم منبوذون من الصغير قبل الكبير، وأن ما تجتهد فيه الحكومات، ليس شرطاً أن يكون كذلك عند الشعوب، وهذا أمر يدعو المناهضين للتطبيع في العالم العربي، الاستمرار في جهودهم وبرامجهم التي لم تذهب هباء منثورا طوال السنوات، التي عملت الآلة الإعلامية العربية الرسمية تصوير الأمور عكس الواقع.

خلاصة القول

هذا الحدث الرياضي والثقافي والحضاري، أكد لكل العالم أن قوة الساعد والسلاح والعضلات، قد تحقق خطط من يتمتع بها ولكن بالغصب والقهر، لكن إن تُرك الأمر للطبيعة البشرية وفي جو آمن مطمئن، فإن الأحداث والإنجازات الكبيرة يمكن أن تتحقق على يد الصغير أيضاً، فالأحجام ليست معياراً وحيداً للتفوق وتحقيق الإنجازات، بل معياراً واحداً ضمن أخريات كثيرات، وهذا ما حدث في هذا المونديال، الذي شهد له العالم بالنجاح التنظيمي والرياضي والإعلامي والحضاري بشكل عام، وستكون آثاره باقية لسنوات طوال في الذهنية العالمية.. ليبقى بعد ذلك شوط مهم يتمثل في أهمية متابعة النتائج وتعزيز الإيجابية منها، ودراسة أي سلبيات ونواقص، لمستقبل نرجو الله أن يكون مبشراً باهراً بإذنه تعالى.