تتأسس أية حضارة على ثقافة مجتمعية متوارثة، تلك الثقافة التي تشكل هويتها، وتمدها بتصوراتها عن الوجود والقيم والأخلاق، بجانب تأثيرها في نظام المعيشة ذاتها، على مستوى الملابس والأطعمة والأشربة، وأيضا العادات والتقاليد.

فالثقافة -كما يراها حسين مؤنس- هي مجموعة المعلومات التي يقوم عليها نظام حياة أي شعب من الشعوب، فهي تعني أسلوب حياته ومحيطه الفكري، ونظرته إلى الحياة، ولابد أن تكون خاصة به، نابعة من ظروفه واحتياجاته وبيئته الجغرافية، وتطور بلاده التاريخي الحضاري، فهي إذن محلية[1].

ووفقا لهذا المفهوم تصبح الثقافة ثمرة ونتاجا لجملة تفاعلات تشكل كينونة الإنسان الذي يعيش في بقعة جغرافية ما، ويدخل في تكوينها موروث الإنسان من الدين، والأفكار، وما تكون لديه من تقاليد وممارسات، وكلها تؤثر في هوية الفرد.

ويكون السؤال: ما علاقة الثقافة بالحضارة؟ وهو سؤال ضروري، فلن تقوم حضارة دون مجتمع، ولا يوجد مجتمع دون ثقافة عميقة؛ كانت أو سطحية، ولابد أن تكون الحضارة معبرة عن هوية المجتمع وثقافته، وإلا ستكون مسخا لحضارات أخرى، وهو ما يجعلنا نواجه دعوات التغريب بكافة أشكالها، بدءا من رفض الاستلاب الحضاري وما يحمله من أوربة (نزعة أوروبية)، وانتهاء برفض العولمة، حيث تذوب الذات الجمعية والفردية في طوفان الغزو الثقافي.

وهنا يثور سؤال آخر: إذا كانت الثقافة نتاجا، فما هو المسبب الحقيقي أو المنشئ الحقيقي لها؟ وهو السؤال الذي استوقف ابن نبي، وطرحه بقوة في العديد من مؤلفاته، بل يمكن القول إنه الوجه الآخر لسؤال الحضارة في فكر ابن نبي.

يقول ابن نبي بعد طول تأمل لتاريخ المجتمعات والثقافات والحضارات: “سواء كنا بصدد المجتمع الإسلامي أو المسيحي، أم كنا بصدد المجتمعات التي تحجرت اليوم أو اختفت تماما من الوجود، نستطيع أن نقرر أن الفكرة التي غرست بذرتها في حقل التاريخ هي فكرة دينية، ومعنى هذا أن الظرف الاستثنائي الذي يلد مجتمعا يتفق في الواقع مع الفكرة الدينية تحمل مقاديره.. إذن، العلاقة الروحية بين الله والإنسان، هي التي تلد العلاقة الاجتماعية، وهذه بدورها تربط بين الإنسان وأخيه الإنسان، هي التي تلد العلاقة الروحية ..؛ التي تربط الفرد بالمجتمع هي في الواقع ظل العلاقة الروحية في المجال الزمني[2]. ليؤكد أن الفكرة الدينية عامة هي المرجع والأساس والمكوّن للثقافة في المجتمعات عامة، وهي الأساس في أية ثقافة، ومنها تنبثق الحضارة، ليكون هذا محورا أساسيا في قراءته للنهضة الحضارية، بل إنه يرى أن الفكرة الدينية تمثل الظرف الاستثنائي أو سببا في التحول النهضوي.

وهو ما يشير إليه وِل ديورانت على أهمية العوامل النفسية الدقيقة في قيام الحضارات، ويعدد هذه العوامل، ويرى أن أبرزها وجود نظام سياسي يمنع الشعب من الفوضى،  والإحساس بالأمان، ويسبق ذلك وحدة لغوية، ووجود أساس عقدي يتمثل في الاتفاق على العقائد الرئيسة، وبما هو كائن وراء الطبيعة، مع منظومة من القيم الأخلاقية، والمثل الأعلى المنشود الذي يوحّد الجماعة، يواكب ذلك نظام من التعليم الذي يكفل توارث العلوم والقيم والأخلاق والآداب، وما توافقت عليه الجماعة[3].

 وهو ما ينطبق على الحضارة الإسلامية في نشأتها الأولى، والتي توافرت فيها العوامل النفسية ممثلةً في الثورة الروحية الهائلة التي أحدثها الإسلام، والذي أحال قبائل بدوية متناحرة إلى نفوس مؤمنة مهذبة، وجعلها متوحدة تحت قيادة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ثم الخلفاء الراشدين من بعده، وانطلقوا يفتحون أمم الأرض، حاملين رسالة سامية، قوامها التوحيد الرباني، والقيم السامية، والأخلاق الفاضلة، والعدالة والمساواة، وما إن استقرت الدولة، وتوطدت أركانها، حتى بدأت عوامل الحضارة تشتعل في جنباتها، وقد أدرك المسلمون في الجيل الأول ثم الأجيال المتتابعة أن رسالتهم الإسلامية في جوهرها رسالة إنسانية حضارية، ويتوجب عليهم ترجمة رؤى الإسلام إلى علوم وآداب وفنون، لتتشكل في النهاية حضارة زاهرة.

فوفق رؤية ديورانت كان الإسلام عاملا نفسيا للإيمان، وإنشاء دولة الخلافة، وقيام حضارة التوحيد، وهو ما الأمر الذي وعاه ابن نبي، وهو يقرأ إجمالا تاريخ الأمة المسلمة، وقد أشار إلى ذلك بوضوح في مقال بعنوان “أثر الفكرة الدينية في تكوين الحضارة”، منبها إلى دور الفكرة الدينية في بناء الإنسان حتى يقوم بدوره في بناء الحضارة، وعندما نتناول الحضارة الإسلامية فلابد أن يدخل في اطرادها بالضرورة عاملان: الفكرة الإسلامية التي هي أصل الاطراد نفسه، والإنسان المسلم الذي هو السند المحسوس لهذه الفكرة. وعليه فإنه مما ينسجم وطبيعة الأشياء، حينما ندرس تطور هذه الحضارة، أن ندرس من حيث الأساس العلاقة العضوية التي تربط الفكرة بسندها. إذن، فكل القيم النفسية الزمنية التي تميز حضارة ما في وقت معين؛ ليست إلا الترجمة التاريخية لهذه العلاقة العضوية بين فكرة معينة كالإسلام مثلا، والفرد الذي يمثل بالنسبة لها السند المحسوس، وهو هنا المسلم[4].

فمنظور ابن نبي ليس مثاليا طوباويا، وإنما هو جامع ما بين الفكرة السامية والواقع التاريخي المعيش، فلا معنى في رأيه لأية نهضة حضارية تتأسس على فكر مطلق، بدون إعداد العدة ممثلة في أفراد يحملونها، خاصة إذا كانت الفكرة رسالة ربانية، جاء بها نبي مرسل لأمة بأكملها، وليس فيلسوفا لطلاب أو قرّاء. فبنية الحضارة الإسلامية مؤسسة على الإسلام دينا ورسالة وقيما وشريعة، وعلى الإنسان تربية وإعدادا وتكوينا وسلوكا. وقد أشار ابن نبي إلى “الترجمة التاريخية للقيم النفسية الزمنية”، والتي تعني في رأينا، كيفية قيام الجيل الأول في الإسلام (جيل الصحابة) بحمل رسالة الإسلام، هداية وأخلاقا إلى شعوب الأمم المفتوحة، ثم كان هذا الجيل لبنة الحضارة الإسلامية، من خلال توجيهه وإرشاده للتابعين، ثم للعلماء المتتابعين، من أجل تكوين اللبنات الأساسية في الحضارة الإسلامية، لتصبح دولة الإسلام (دولة الخلافة) الممتدة، حاملة لمشعل الحضارة، بعدما حملت مشعل الهداية؛ ولكي نفهم دلالة “العلاقة العضوية” التي شدد عليها ابن نبي، التي تربط الفكرة الدينية مع الفرد المسلم حاملها، ليكون الفرد هو لبنة الحضارة والنهضة، وليست الجماهير المتراصة كما صورتها الإيديولوجية الماركسية أو الفكرة القومية، فليست الجماهير على قلب رجل واحد، كما تبدو في الصور، فكل فرد تتنازعه شهواته وميوله، أما الفرد المسلم فهو يراقب الله أولا، ويضعه نصب عينيه سواء كان في الصف المسلم أو بمفرده.

وذلك هو المعنى الذي يراه  أشفيتسر ضمن قراءته لفلسفة الحضارات، ذاكرا بأن تطور الحضارة يقوم به عامةً أفرادٌ من الناس، يفكرون في المثل التي تهدف إلى تقدم المجموع، ويكيفونها مع وقائع الحياة، على نحو يجعلها قادرة على التأثير الأقوى في ظروف العصر. ولهذا فإن مقدرة الإنسان على أن يكون رائدا للتقدم، أي أن يفهم ماهية الحضارة، وأن يعمل لها، تتوقف على كونه مفكرا، وعلى كونه حرا. إذ ينبغي أن يكون مفكرا ليكون قادرا على فهم مُثُله وتصويرها، وينبغي أن يكون حرا، ليكون في وضع يتهيأ له منه أن يدفع بمثله إلى الحياة العامة، وكلما ازداد نشاطه في الكفاح من أجل الوجود؛ ازداد عنده الدافع إلى إصلاح أحواله طلبا لنصيبه من مُثُل الفكر. والحرية المادية ترتبط بالحياة الروحية ارتباطا وثيقا، فالحضارة تفترض أناسا أحرارا، لأن بالأحرار وحدهم تتحقق الحضارة وتصنع[5].

فلابد من وجود الضمير أو البعد الروحاني في أية حضارة، فهو الذي يلهم ويغذي التقدم المادي، وهو المنظور الذي انطلق منه أسوالد اشبنغلر وهو يقرأ أسباب تدهور الحضارة الغربية، حيث يقرر أن أية حضارة لابد أن يكون لها علاقاتها بالحياة وبالروح وبالطبيعة وبالفكر، وكيف تعبر عنها في إبداعاتها وفنونها وفي أشكال مختلفة تشمل الشعوب واللغات والعصور التاريخية والمعارك والعقائد والأفكار، والفنون والقوانين والعلوم والأنظمة الاقتصادية، والرجال العظام، والأحداث الضخمة، ويمكن القبول بمثل هذه الأشياء بوصفها نماذج وأمثلة دالة.


[1] مؤنس، د. حسين، الحضارة: دراسة في أصولها وعوامل قيامها وتطورها، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ط2، 1998، ص322.

[2]ميلاد مجتمع: الجزء الأول: شبكة العلاقات الاجتماعية، ص52.

[3] قصة الحضارة، ص6، 7.

[4] شروط النهضة، الصفحات: 62، 66، 67.

[5] أشفيتسر، ألبرت، فلسفة الحضارة، ترجمة: عبد الرحمن بدوي، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1963، ص20، 21.