يعد الربا أحد أسباب الفساد العامة في البيوع كما أطلق عليه ابن رشد الحفيد، لما ينطوي عليه من الظلم الكبير والفساد العميم على المجتمع الإنساني لذلك نهى الشارع عنه وأعلن الحرب على من يستبيحه ويستخف في التعامل به بيعا أو شراء أو قرضا، وقطع كل طرق تؤدي إلى إحلال الربا، ويطلق الربا على الزيادة المشروطة في أموال مخصوصة، في عقود مخصوصة، وفي حالات مخصوصة. قال ابن عاشور: والربا هو سبب في انقطاع المعروف بين الناس لتعطيل القروض. وبتحريم الربا تطيب النفوس بقرض الدراهم للمحتاج واسترجاع مثلها من غير زيادة ابتغاء للأجر من الله. وجاء حكم الشارع الصارخ في نفي المماثلة بين البيع والربا فقال الله تعالى: ﴿‌وَأَحَلَّ ‌اللَّهُ ‌الْبَيْعَ ‌وَحَرَّمَ ‌الرِّبَا﴾ [البقرة: 275]، ولما وجدنا الحديث توسع كثيرا في الربا، إلى حد التعقيد، أردنا الإشارة إلى معرفة ما هي أصول الربا، ليسهل تصوره لدى القارئ.     

وجاءت أحاديث كثيرة في تحريم الربا، ومن أهمها حديث أبي سعيد الخدري الذي بين أعيان الربا، فإنه يعتبر أصل النهي عن الربا في السنة النبوية بالإضافة إلى الآية المذكورة.

 عن أبي سعيد الخدري: “الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُر بالبُر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلاً بمِثل يداً بيد. فمن زاد أو استزاد فقد أربى، والآخذ والمعطي في ذلك سواء” رواه البخاري ومسلم .

وفي رواية أخرى، يقول أبو سعيد الخدري: وسمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تبيعوا ‌الذهب ‌بالذهب، ولا تبيعوا الورق بالورق، إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضه على بعض، ولا تبيعوا شيئا غائبا منه بناجز، إلا يدا بيد»[1].

حاول علماء السلف بيان أصول الربا خلال المصادر الفقهية المعتمدة، على هيئة تشمل الأصول والفروع المرتبطة بالربا، ويمكن تقسيم أصول الربا جمعا للنصوص الواردة في الكتاب والسنة النبوية إلى ثلاثة أنواع:

(1) ربا الجاهلية: وهو الزيادة على الدين لأجل التأخير.

(2) ربا الفضل: وهو الزيادة في أحد العوضين في بيع الصنف بصنفه من الأصناف الستة المذكورة   في حديث أبي سعيد الخدري.

(3) ربا النسيئة. وهو بيع شيء من تلك الأصناف بمثله مؤخراً

  وعالجت دراسة الدكتور رفيق يونس المصري في كتابه “الجامع في أصول الربا” الأصول التي ينشأ منها الربا وذلك بعد بيان أهم المعاني الثلاثة المذكورة في الاصطلاح الشرعي، وهذه الألفاظ هي: ربا النسيئة وربا الفضل وربا النساء، وكان يرى أن المعنى الأصلي للربا في الشرع حين يطلق ينصرف إلى ربا النسيئة، وهو الزيادة في القرض، ويطلق عليه كذلك ربا القروض، وبناء على ذلك فإن أصول الربا يرجع إلى نوعين:

1 – ربا القرض (ربا النسيئة)، وهو الزيادة في القرض لقاء تأجيله

2 – ربا البيع وهو قسمان:

– ربا فضل وهو الزيادة في أحد البدلين المتجانسين على الآخر في مبادلة فورية.

– ربا نَسَاء وهو تأخير أو تأجيل أحد البدلين في مبادلة متجانسين كالذهب بالذهب، أو متقاربين كالذهب بالفضة، ولو لم يقترن التأخير بأي زيادة. 

ومن الأمثلة التي تطبق على الأصول المذكورة لإيضاح المطلوب منها أن أكثر ما يجب أن ينبه عليه في أصول الربا هو ربا القرض، والبيع بالنسيئة وبيع السلم.

1 – أما ربا القرض فهو الذي انتشر كثيرا في وقت الجاهلية، ثم جاء الإسلام فنهى عنه، وذلك أنهم كانوا يسلف أحدهم، فإذا عجز المدين عن دفع دينه عند الاستحقاق، قال للدائن: أَنْظِرْنِي أَزِدْكَ، أي: أمهلني لأجل آخر مقابل الزيادة في الأصل، وهذا الي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله في حجة الوداع: (وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، ‌وَأَوَّلُ ‌رِبًا ‌أَضَعُهُ رِبَانَا رِبَا الْعَبَّاسِ ابْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ)[2].

2 – أما ربا البيع فيأتي في صورتين:

أحدهما ربا الفضل كما تقدم، نحو أن يبيع الذهب بالذهب، أو أحد الأصناف الستة في حديث أبي سعيد الخدري بالأخر من جنسه، فقد أجمع الفقهاء على تحريم هذا البيع إذا زاد أحد الوزن على الآخر، كما لا يجوز تأخير البيع، فيجب التساوي بين السلعتين والقبض الفوري بين المتبايعين.  

والثاني – ربا النساء وهو التأخير في تسليم أحد البدلين سواء كانا من جنس واحد أو متقاربين في الثمنية. مثل مبادلة الذهب بالذهب وهما من جنس واحد، فإنه يحرم فيه النساء، وكذلك مبادلة الذهب بالفضة وهما متقاربان من جهة كونهما أثمانا فإنه يجوز التفاضل (الزيادة) في أحدهما، ولكن يحرم فيه النساء (التأخير).   

ونرى الفرق بين الأصول التي ذكرها الفقهاء والتقسيم الذي اختاره بحث الدكتور رفيق المصري زيادة ربا النساء، واعتنى بهذا النوع على وجه الخصوص في كتابه (الجامع في أصول الربا)، وارتفع عن التقسيم الثنائي المشهور الذي يرى أصول الربا نوعان (ربا فصل ونسيئة). وكان سبب التركيز على هذا النوع ما امتثله في مقدمة كتابه:

“ليس من الصعب أن نفهم حكمة ربا النساء في مبادلة دنانير ذهبية بدراهم فضية، ففي هذه المبادلة أباحت الشريعة الفضل فيها، وهذا أمر طبيعي ومعقول، لكن لو أبيح النساء هنا للجأ الناس إلى بيع ذهب معجل بفضة مؤجلة (مؤخرة) أو العكس، ولأمكن بهذا أن تعقد القروض الربوية على هذه الشاكلة، فالفضل بين الذهب والفضة جائز، فتسهل زيادته لأجل التأخير، وهذا هو ربا القروض”[3].

وهذا المصطلح مدمج في فقه المذاهب الأربعة، وإن كان لم يجرد بالذكر في التقسيم، ويمكن بيان أثر النساء في البيوع في صور ثلاثة:

1- النساء في مبادلات مخصوصة متجانسة كالذهب بالذهب من جنس واحد فهذا ممنوع. وذلك باتفاق الفقهاء. فاتحاد الزمن مطلوب هنا لتحقيق العدل في هذه المبادلة

2 – أما مبادلات الذهب بالقمح فالنساء فيها جائز وليس فيه أي ربا محرم. والزيادة هنا من النوع الجائز. وهنا تأمنت العدالة بجبران البدل المؤجل بزيادة مناسبة على البدل المعجل.

3 –  أما النساء في تبادل الذهب بالفضة على الرغم أنه لا يجب فيه التساوي، إلا أنه يرى النساء فيه ممنوع كذلك سدا لذريعة أن يتوصل به إلى ربا القرض.

وفي الصورة الأخيرة فإن التساهل الذي يقع فيها الناس اليوم هو مبادلة الذهب بالفضة على أنها بيع، فيزيد في نسبة أحدهما لاختلاف الجنس، ولكن يبيح النساء (التأجيل) كما يحدث في صرف العملات الورقية، ثم يتعامل معها على أصول البيع، وهذا العقد قد تحول إلى القرض إذ أحد البدلين غير موجود وقت التعاقد، وهنا يتذرع به إلى أكل الربا الذي يحرم، لذلك وجب تحريم النساء في حالة الصرف بين العملات المختلفة.

يقول رفيق المصري رحمه الله: التقارب كما في الذهب والفضة مدعاة إلى شرط واحد وهو التقابض الفوري، ذلك أن التفاضل بينهما جاز، فلو جاز معه التأجيل لأمكن عقد القروض بالدراهم الفضية مثلا، وتسترد بالذهب، أو العكس، ولسهل أخذ الفوائد الربوية طالما أن التفاضل جائز[4].  


[1]  صحيح مسلم (3/ 1208)

[2]  رواه ابن ماجه (3074) وأبوداود (1905)، وصححه ابن خزيمة (4/251).

[3]  الجامع في أصول الربا (11).

[4]  الربا والحسم الزمني في الاقتصاد الإسلامي (41).