المتتبع للآيات التي تحدثت عن تحويل القبلة، يجد أن الله كشف للمسلمين ما سيقوله اليهود والمشركون عن التحويل، ولكنه في الوقت ذاته، لم يلقن المسلمين إجابة يجيبونهم بها!

قال تعالى : {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142]

فالآية تخبر المسلمين أن السفهاء ، وهم المشركون واليهود، سوف يثيرون هذه الشبهة عند المسلمين : ما سبب تغيير قبلتكم؟ فإنه إما أن تكون قبلتكم الأولى كانت خطأ، أو كانت صوابا، فإذا كانت خطأ، فكيف خفي هذا الخطأ على ربكم؟ وإذا كانت صوابا، فمعنى ذلك أن القبلة الجديدة هي الخطأ فكيف يوجهكم إليها. هذا هو تقرير شبهتهم كما قررها المفسرون في كتب التفاسير.

فنجد أن الحجة التي لقَّنها الله للمسلمين، وهي : ” قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ” لا تُقنع مثيري الشبهة، ولا تقطع تشغيبهم، إذ لو قال لهم المسلمون ذلك، لأمكن لهم : أن يقولوا : نحن نعلم أن المشرق والمغرب ملك لله، ولسنا عن هذا نسأل؟ ولكننا نسأل عن سبب التحويل ؟

ولهذا قال ابن عاشور : ” وقد سلك الله في هذا الجواب لهم طريق الإعراض والتبكيت؛ لأن إنكارهم كان عن عناد لا عن طلب الحق؛ فأجيبوا بما لا يدفع عنهم الحيرة، ولم تبين لهم حكمة تحويل القبلة، ولا أحقية الكعبة بالاستقبال، وذلك ما يعلمه المؤمنون”.[1]

ولكن، يبقى السؤال : كيف تكون هذه الآية مطمئنة لقلوب المسلمين من زلزال هذه الشبهة؟ وكيف تكون عاصمة لعقولهم من الوقوع في فخاخها؟

والجواب : أن الآية تشتمل على رسم معالم منهج قويم في التعامل مع الشبهات التي ستثار في وجوه المسلمين، وبيان ذلك على النحو التالي :

لفظة “سفهاء”

أولا : نبَّه القرآن المسلمين إلى أن التعامل مع الشبهات يبدأ من كيفية التعامل مع مثيريها أولا قبل الشبهة ذاتها، فقد سمَّى الله هؤلاء المثيرين (سفهاء) فعلى المسلمين أن يتعاملوا مع مثيري الشبهات على أنهم سفهاء، لا على أنهم علماء وحكماء وفلاسفة ومفكرون كبار.

إن آفة المسلمين في هذا الصدد أنه انطلى عليهم وصف كثير من مروجي الشبهات بأنهم المفكرون الكبار، والنابهون العظام، فكم من سفيه مروِّج للشبهات يوصف في مجتمعات المسلمين بأنه المفكر الإسلامي الكبير، والمفكر المستنير، والبرفوسير النابه، ومن هنا تبدأ الهزيمة النفسية والعقلية للمسلم، حيث يبدأ في تلقي إفكه وضلاله على أنه علم غزير، أو على الأقل، شبهة قوية تحتاج إلى مجامع علمية وفقهية لدراستها وتفنيدها، وكان يمكن أن ينتهي الأمر كله  من البداية لو أن المسلم انتبه إلى هذه الهداية القرآنية الرائعة، فوصف كل مثير للشبهات بأنه سفيه.

ثانيا : من الطبيعي جدا بعد أن يصف الله هؤلاء الأشخاص بأنهم سفهاء ألا يذكر الله للمسلمين إجابة يحاجونهم بها؛ لأن السفيه لا يُجاب، بل لا يُستمع إليه، ولا يُحتفل بكلامه، ولا يؤبه بخزعبلاته، فهو سفيه، وقديما قال القائل :

إذا نطق السفيه فلا تجبه ….. فخير من إجابته السكوت
فإن كلمته فرجت عنـه ….. وإن خليته كمداً يمـوت

لله المشرق والمغرب

ثالثا : هذا المنهج في التعامل مع مثيري الشبهات، وإن كان لا يحتاج إلى تفنيد لشبهاتهم إلا إنه يحتاج إلى ما هو أهم من ذلك، يحتاج إلى حسم قضية العقيدة بين المؤمن وبين نفسه أولا.

فهل فعلا يؤمن المسلم تمام الإيمان أن الملك كله لله، وأن الحق في التشريع لا يملكه إلا الله، {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [الأعراف: 54].

إذا آمن المسلم بذلك، فعندئذ، لن تتسلل شبهة إلى عقله من أي تكليف متى وثق أن الأمر فعلا من عند الله، فليحولنا الله كل يوم إلى قبلة، وليخلع البركة و القدسية على ما شاء من الأماكن والأزمان وقتما يشاء، وليخعلهما عمن شاء من الأماكن والأزمان وقتما يشاء، فليفعل ما يشاء، فالمشارق والمغارب ملكه، ونحن عبيده، والأمر أمره، فليفعل بنا ما يشاء.

المهم أن نطمئن إلى أن الأمر والنهي من عند الله، كما اطمأنت من قبل السيدة هاجر، يوم أن تركها سيدنا إبراهيم مع وليدها بلا أنيس أو جليس، فأرادت أن تطمئن : هل هذا أمر أمرك الله به يا إبراهيم، فلما قال لها : نعم، قالت : إذن لن يضيعنا الله!

وهذا لا يمنع السؤال عن الحكمة من الفعل الإلهي الكوني، والأمر الإلهي الشرعي، لكن ربما لا تتسع علوم العلماء إلى الكشف عن الحكمة؛ فعندئذ يجب التسليم وكفى، قال تعالى : {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت: 62] فبسط الله الرزق لبعض عباده، وتضييقه على البعض الآخر، له حكمة، لكن لا يصل إليها علم البشر؛ ولذلك جاء تذييل الآية بقوله تعالى : “إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ”.

ولذلك فإن قوله تعالى : { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 142] ليس قولا يواجه به السفهاء بقدر ما هو منهج يتربى عليه المسلمون.

ليس شتما ولا سبًّا

رابعا : ليس المقصود من وصف المشغبين بالسفهاء شتمهم وسبهم، بل هم فعلا سفهاء العقل.

فكل من أعرض عن هداية القرآن، فهو سفيه ، وهو سوف يعترف بذلك يوم القيامة، قال تعالى : { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10].

وهو سفيه بالموازين العقلية الدنيوية حتى قبل اعترافه على نفسه يوم القيامة، فما من صاحب شبهة إلا وستجده متناقضا تناقضا يدل على سفهه وغبائه.

فمثلا، هؤلاء اليهود الذين شغبوا على تحويل القبلة، إذا بحثت في تاريخ قبلتهم ستجد أن اعتراضهم على القبلة التي حولها الله بآيات قرآنية، كان الأولى منه أن يوصلهم هذا المنهج الذي يصفونه بالمنهج العقلي  إلى سؤال أنفسهم : لماذا يتوجهون هم في قبلتهم  إلى بيت المقدس.

فاليهود يستقبلون بيت المقدس، وليس هذا الاستقبال من أصل دينهم؛ لأن بيت المقدس إنما بني بعد موسى عليه السلام، بناه سليمان عليه السلام،.

فلا تجد في أسفار «التوراة» الخمسة ذكرا لاستقبال جهة معينة في عبادة الله تعالى والصلاة والدعاء، ولكن سليمان عليه السلام هو الذي سنَّ استقبال بيت المقدس.

ففي سفر الملوك الأول أن سليمان لما أتم بناء بيت المقدس جمع شيوخ إسرائيل وجمهورهم، ووقف أمام المذبح في بيت المقدس، وبسط يديه ودعا الله . وهذا لا يدل على أن استقبال بيت المقدس شرط في الصلاة في دين اليهود، وقصاراه الدلالة على أن التوجه نحو بيت المقدس بالصلاة والدعاء هيئة فاضلة، فلعل بني إسرائيل التزموه، لا سيما بعد خروجهم من بيت المقدس، أو أن أنبياءهم الموجودين بعد خروجهم أمروهم بذلك بوحي من الله.

وأما النصارى فإنهم لم يقع في إنجيلهم تغيير لما كان عليه اليهود في أمر الاستقبال في الصلاة ولا تعيين جهة معينة، ولكنهم لما وجدوا الروم يجعلون أبواب هياكلهم مستقبلة لمشرق الشمس، بحيث تدخل أشعة الشمس عند طلوعها من باب الهيكل وتقع على الصنم صاحب الهيكل الموضوع في منتهى الهيكل، عكسوا ذلك فجعلوا أبواب الكنائس إلى الغرب، وبذلك يكون المذبح إلى الغرب والمصلون مستقبلين الشرق.

وذكر الخفاجي أن بولس هو الذي أمرهم بذلك، فهذه حالة النصارى في وقت نزول الآية، ثم إن النصارى من العصور الوسطى إلى الآن توسعوا فتركوا استقبال جهة معينة؛ فلذلك تكون كنائسهم مختلفة الاتجاه، وكذلك المذابح المتعددة في الكنيسة الواحدة.[2]

هذا مع أنه لم تؤثر روايات تذكر أن النصارى اعترضوا على المسلمين في تحويل قبلتهم، ولكن الغرض من ذكر ذلك ، أن من لهم قبلة يتوجهون إليها، إنما اجتهدوا من عندهم في الوصول إليها، أما نحن، فالقبلة الأولى إلى بيت المقدس كانت بأمر الله، والثانية إلى البيت الحرام كانت بأمر الله، فأي الفريقين أولى بالتشغيب على الآخر حسب  الموازين العقلية في التشغيب؟


[1] – التحرير والتنوير (2/ 12).

[2] التحرير والتنوير (2/ 9)