(9)

من صناعة النفوس المحطمة إلى صناعة النفوس المدافعة

تهدف الأنظمة المستبدة – كما يهدف الاستعمار- إلى صناعة النفوس المحطمة التي لا تؤمن بجدوى فعل التغيير فضلًا عن القيام به..ومن ثم تتحول طاقات هذه النفوس إلى طاقات تدميرية داخلية، بدلًا من توجيهها في مسارات التغيير والإصلاح الذي آيست منه ويأست من جدواه..فتظل هذه النفوس في حالة صراع ذاتي إلى أن ينتهي بها إلى التحطم الداخلي..وهذا ما يحياه الإنسان المسلم الآن وهو خطر يهدد وجوده الفعلي فضلًا عن وجوده الحضاري والتاريخي.

وفي وظائف تيار الفضيلة والأخلاق والذي نعول عليه كجبهة إنقاذ لهذه الأمة، تبدو الوظيفة الإنقاذية التي يمكن أن نجعل عنوانها كالتالي: ( بناء “تدافعيات” الحق في مواجهة تمددات الباطل) وهي وظيفة سننية إلهية اجتماعية لا تقوم المجتمعات دون ممارستها في وجودها التاريخي والحضاري.. { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} [18: الأنبياء]

والفكرة المركزية في هذه الوظيفة بصورة عملية هي بناء جدارات من المواجهة لكل أشكال الباطل التي تهدد وجود الأمة وذلك من خلال جهاد البناءات التالية:

– بناء تدافعيات الصدق في مواجهة تمددات الكذب.

– بناء تدافعيات الحياء في مواجهة تمددات الفجور.

– بناء تدافعيات الأمانة في مواجهة تمددات الخيانة.

– بناء تدافعيات الإيفاء في مواجهة تمددات الخُسر.

– بناء تدافعيات اليقين في مواجهة تمددات الشك.

– بناء تدافعيات الإيمان في مواجهة تمددات الإلحاد.

– بناء تدافعيات الاستقامة في مواجهة تمددات الانحراف.

– بناء تدافعيات العفة في مواجهة تمددات الانحلال.

– بناء تدافعيات التكافل في مواجهة تمددات الفقر.

– بناء تدافعيات الوحدة والتلاحم في مواجهة تمددات الفرقة والانقسام.

– بناء تدافعيات الستر في مواجهة تمددات الفضح.

– بناء تدافعيات التعاون في مواجهة تمددات التنافر والشقاق.

– بناء تدافعيات المحافظة على الحقوق في مواجهة تمددات سلب الحقوق.

إن الأمة مهما وصل بها الحال لن تعدم نماذج تجسد هذه الأفكار، والتي بدورها تسعى من خلال متوالية هندسية إلى بناء نماذج مكررة لهذا التجسيد الذي يعمل على تمثل هذه التدافعيات لتحويل النفوس المحطمة في المجتمع إلى نفوس مدافعة..

(10)

من القابلية للاستعباد إلى القابلية للتحرر

هدف هذه الوظيفة لتيار الفضيلة والمقاومة الأخلاقية في الأمة هو استعادة كينونة الإنسان وهويته الإلهية..إن المسلم المعاصر غاب عنه – في تيه عوامل متعددة- هويته الإنسانية والربانية اللتان خُلق بهما ..فانفصل عن نوعه الإنساني الذي يجمع بين عنصري (التراب وروح الله) وغلب عليه ( التراب أو الطين) فمالت نفسه إلى الخضوع والاستعباد… ومن هنا فإن إحياء مفهوم روح الله وما يرتبط بها من : تكريم للإنسان، ومن فرادة الحرية والمسؤولية والتكليف بين الكائنات من الضرورة بمكان كي يستعيد الإنسان المسلم تحرره من ( الطين والتراب) اللذين ألصق بهما والتصقا به..فوصل إلى ما هو عليه الآن..ملخص هذه الوظيفة هو استعادة اللقاء بين الإنسان المسلم والإنسان الذي خلقه الله . واختصه وميزه وقربه وأسجد له الملائكة..

(11)

تحويل القلق إلى برنامج عمل

لا أعتقد أن الأمة بحاجة إلى مشاريع فكرية جديدة، وذلك ليس قتلًا للإبداع، ولا الاجتهاد، وذلك لأن الاجتهاد والإبداع يكونا حيث تكون المشكلة أو الإشكالية التي يتطلب الأمر فيها إبداعًا أو اجتهادًا ، وهذا ما أظن أنه يجب التفكير فيه بجدية…فالأمة أنتجت عبر قرن ونصف من الأفكار ، ما يصلح الأمة ويزيد، فليست الإشكالية هي إنتاج أفكار من ذات النوع الذي يؤسس لمشروع حضاري إسلامي نهضوي يعبر عن الإسلام وحتى لا يتحول الأمر إلى حرفية لفظية نكرر ما كتبه أسلافنا في العصر الحديث ونقتات منه أحاديثنا وكتابتنا – وهو في مجال التعريف بها أمر لازم ومهم ولكن أن يكون ذلك هو جل اهتمامنا ومجال عملنا الأساس فهذا أمر يحتاج إلى مراجعة وتفكير- إن الإشكالية الحقيقية –من وجهة نظري- تكمن في تحويل هذه الأفكار إلى برامج عمل إلى برامج عمل موجهة نحو (الإنسان) ؟الموضوع الرئيس لأفكار الإصلاح..وكيف يمكن خلق برامج تعليم موازي لهذا الإنسان؟ كيف يمكن تحويل الإنسان المسلم إلى كائن قلق على وجوده ومصيره العام والجامعي؟ ..تلك هي القضية الرئيسة لنا، نحن الذين أتيحت لنا فرص الاطلاع الكامل على هذه المشروعات، وأتيحت لنا فرص التواصل والشهرة والتميز والتوظيف …، ولكننا ما زلنا مثل المسلم العادي ينتظر ( النصر من الغيب بلا عمل ) أو ( ما زلنا نجتر أقول وأفكار الأولين مجرد لفظ لا حركة له )…إن التجربة اليهودية المعاصرة شاهدة علينا جميعًا – وللحسرة أن يتحول اليهود إلى شهود علينا -…هل يمكن أن نستفيق حقيقة، وعملًا..هل يمكن أن يحكمنا في الثلث الأول من الألفية الثالثة المنطق العملي ..ونتخلى مطلقًا عن الحرفية اللفظية ..

(12)

تجديد ميزان العمل الصالح للمثقف المنتمي.. معيارية {لَا يَسْتَوِي} و {يوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ }

قاعدة القرآن الأصيلة التي تقول ” لَا يَسْتَوِي “وهي كما فهمناها معياريات للتفاضل وهذا فهم مبدئي لا نهائي يترتب عليه معياريات أخرى .. وهو ما أريد أن اذكره هنا.. أهمها معيارية المسؤولية أمام الناس وأمام الله .. والمعيارية التي تخص المثقف المنتمي هنا هي {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} {وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}وقوله (صلى الله عليه وسلم) [ لا تزول قدما عبد … حتى يسأل عن أربع … علمه فيما عمل به ..] الحديث..

والتفضيل هنا وجه من وجوه ” لَا يَسْتَوِي..ولكن الوجه الآخر لتلك المعيارية هو ” المسؤولية” أمام ” الناس” وأمام “الله” وهي مسؤولية عظمى .. لا يجادل فيها أحد..فالعمل الصالح للمثقف المنتمي.. ينشد بين الحبلين ( حبل الناس) و(حبل الله)، و “حبل الناس” يرتبط فيهم ولهم بفكرة ” النفعية” فالعمل الصالح لا بد وأن ينفع الناس ..وفكرة النفع ذاتها ترتبط بفكرة “تلبية الحاجة ” لدى “الناس” إذ لا معنى لعمل صالح ” لا ” ينفع” الناس ، ولا معنى لـ” نفعٍ” ما لم يلبي “حاجة” حقيقة للناس..وهو ما عبر عنه القرآن {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ } فالإطعام شئ نافع – في ظاهره- ولكن نفعه الحقيقي يكون في {يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ } ذي جوع شديد.. ولهذا أيضًا ربط جل شأنه حالة عظيمة هي التكذيب بالدين وبين عدم الحض على طعام المسكين { أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ}.

إن المثقف المنتمي فعله الصالح يعاير بمعيارية ” النفع” و” تلبية الحاجة” لدى “الناس” الشاهدين عليه أو له ..حتى يبين لهم ماذا في البينات والهدى، وماذا يحتوى ذلك الميزان من خير وهدى وشفاء ..

و الالتزام بهذا الميزان وبمعياريته، يحفظ للمثقف المنتمى من أن يقع أسر “التزيين” بالعمل الذي يقوم به ، ويعتبر أن ما يقوم به هو ” حسنًا” وهو ليس كذلك {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} ..وهو أمر من الخطورة بمكان إذ فيه خسارة أمام الشاهدين العظيمين ” الناس” و”الله” …