يعتبر البروفسور مالك بابكر بدري أحد القامات العلمية السامقة التى أثرت الساحة العلمية خاصة في مجال علم النفس الإسلامي، فكانت إسهاماته العلمية نبراسا للطلبة والباحثين، تخطى  البروفيسور مالك بدري حدود القطرية الضيقة إلى آفاق العالمية فكانت كتبه وبحوثه ونظرياته في علم النفس محل إعجاب وتقدير من كبريات الجامعات العالمية وأهل التخصص ومراكز البحث وتدرس نظرياته  الحديثة في علم النفس السلوكي في الجامعات البريطانية.

في هذا المقال نعرف بتراث مالك بدري واسهاماته العلمية والفكرية وسنركز أكثر على مجهوداته القيمة في علم النفس الإسلامي.

النشأة والتعليم

في مدينة رفاعة المستلقية على ضفاف النيل الأخضر وفي وسط جمع بين العلم والزهد ولد البروفسور مالك بابكر بدري في 14 فبراير 1932 ، ووالده العالم الرباني الشيخ بابكر بدري أحد رجالات السودان الذي تركوا بصمات مؤثرة في تاريخهم الحافل بالإنجاز العلمي والمعرفي فهو رائد تعليم المرأة في السودان حيث يعتبر أول من أسس مدرسة لتعليم البنات هناك  سنة 1907، وكان له دور بارز في تخريج  وتكوين العديد ممن كان لهم دور بارز في تاريخ السودان الحديث. حصل البروفسور مالك بدري على بكالوريوس الآداب بدرجة ممتاز من الجامعة الأمريكية في بيروت (لبنان) عام 1956م، ثم شد الرحال إلى بريطانيا حيث حصل على الماجستير في جامعة ليستر عام 1958م ثم الدكتوراه في نفس الجامعة عام1961م ،  إضافة إلى شهادة التخصص في علم النفس السريري عام 1967م.

لماذا نحتاج إلى علم النفس الإسلامي ؟

تكونت قناعة لدى البروفسور مالك بدري حول قراءة علم النفس من منظور الإسلام، وكانت هذه الرؤية نابعة من أصول معرفية ونظريات منهجية، فالرجل ذو باع واسع في العلم وصاحب تجربة مميزة في البحث العلمي لذلك كان عنيدا وقويا وجريئا في مواجهة منتقديه.

يقول: كانت أولى محاضراتي حول قراءة علم النفس من خلال التراث الإسلامي في قاعة المحاضرات العامة في الجامعة الأردنية 1965، وقد لاقت فكرتي الكثير من الأسئلة الساخرة، والتعليقات التهكمية من ضمن تلك التعليقات والأسئلة: ما علاقة علم النفس بالدين، لقد كافح العلم على مدى العصور الماضية أيما كفاح من أجل التخلص من التبعية للدين، هل تريد لعلم النفس أن يتراجع للحقب السوداء حيث ثنائية الدين والفلسفة، بعد المحاضرة المثيرة للجدل نصحني بعض من الأساتذة في قسم علم النفس بأنني إذا واصلت في عرض فكرتي حول دراسة علم النفس من خلال الإسلام فربما أفقد احترامي كعالم!

بعد إحدى عشر سنة من هذه المحاضرة تم استدعائي من طرف جمعية علماء علم الإجتماع المسلمين في أمريكا لتقديم ورقة بحثية بعنوان: “علماء النفس المسلمون في جحر الضب” وقد كنت مندهشا من تفاعل الحضور مع فكرة البحث خاصة من قبل علماء النفس الأمريكيين الذي دخلوا الإسلام حديثا. أحد هؤلاء العلماء هو السيد Dr. John Sullivan خاطبني قائلا: لقد اكتشفت أنني كنت أيضا في جحر ضب خلال سنوات عملي الماضية وقد قدم هذا الدكتور استقالته كاستشاري في المستشفى ويعمل على وظيفة العلاج النفسي في إطار الأسلمة وله كتاب مميز في هذا المجال بعنوان: Islamic Counseling.

بعد عودتى إلى المملكة العربية السعودية حيث كنت أستاذا جامعيا ومديرا للمصحة النفسية التابعة لجامعة الرياض طلب مني عميد الكلية ترجمة ورقتي البحثية “علماء النفس المسلمون في جحر الضب” إلى اللغة العربية وتقديمها كمحاضرة أمام طلاب وأساتذة القسم ، وكما توقعت فقد كانت فكرة الأسلمة صادمة لغالبية الأساتذة ثم بدأوا يرددون السيمفونية القديمة ما علاقة علم النفس بالإسلام ، وبعضهم غضب جدا بسبب انتقاداتي لنظريات فرويد.

فقدان الثقة 

الكثيرون من أساتذة علم النفس في تلك الفترة لم يستطيعوا استيعاب فكرة دراسة علم النفس الإسلامي واعتبروها ضربا من العبث بسبب تضخم الأنا والاعتماد الأعمى على الغرب ومجاراته في كل صغيرة وكبيرة حتى أنهم لو دخلو جحر ضب لدخلوه خلفهم، يتوهم هؤلاء العلماء أنهم قادرون على التحكم والتنبؤ بجميع جوانب السلوك الإنساني لكنهم في الحقيقة من الصعب أن يستطيعوا ذلك، وقد عبر عن هذه الحالة الدكتور عبدالله الصبيح عالم النفس السعودي في كتابه تمهيد في التأصيل حيث كتب في الصفحة(29) قائلا: أن أحد زملائه عبر بشدة عن عدم جاهزيته لعلم النفس الإسلامي لطلابه حتى تحصل هذه الفكرة على اعتراف من المؤسسات العلمية الغربية، هنا مكمن الخطأ والضعف.

هذه التجربة الشخصية جعلتني أجزم بالاعتقاد أن زملاءنا الذين يرفضون فكرة علم النفس الإسلامي دون أبسط تفكير أو تحليل للفكرة هم غربيون في أفكارهم أكثر من الغربيين أنفسهم ، أو بعبارة أوضح هم ملكيون أكثر من الملك، ومن المحزن القول بأن علماء النفس الغربيين يتعاملون مع الفكرة بأسلوب علمي نقدي ويعتبرون أن علم النفس بحاجة إلى دراسة الثقافات الأخرى.

بعض علماء النفس الغربيين اكتشفوا أن علم النفس المعاصر يتأثر كثيرا بالمدرسة الأمريكية، حيث أن نتائج التجارب التى يتم إجرائها على الحيوانات تستخدم كمواضيع للطلبة الأمريكيين. وقد عبر عالم النفس البريطاني  Eysenck عن ذلك في مقال له نشر سنة 1995 في مجلة Journal of World Psychology   حيث قال: “العديد من الدراسات السيكولوجية التى لدينا اليوم تعتمد على دراسات الطلبة الأمريكيين على الجرذان، الحمام، والمختلين عقليا. ومن الواضح أن هذا لا يكفي لتأسيس مسلمات علمية  لعلم النفس على مستوى العالم بمختلف ثقافاته وأعراقه و أشكاله.