يظل ابن تيمية شاغلَ الناس، ومحطَّ اهتمام الباحثين؛ فتراثه متشعب، وسجالاته متعددة، واجتهاداته جديرة بالنظر والتأمل، موافقةً أو مخالفة. وفي هذا السياق جاء كتاب (ابن تيمية وعصره) الذي صدر سنة 2010م عن جامعة أكسفورد، وحرّره الباحثان: يوسف ربوبورت، وشهاب أحمد؛ ليتناول تراث ابن تيمية من زوايا متعددة، وفي سياقات مختلفة..

وفي هذا الحوار نتعرف من مترجم الكتاب، الأكاديمي الجزائري محمد بوعبد الله، باحث في الدراسات الإسلامية وأستاذ محاضر في الدراسات العربية في جامعة وستمنستر بلندن.. على فكرة الكتاب وأهميته ، وما يمثله من إضافةٍ لدراسات التراث التيمي؛ والصعوبات التي واجهته أثناء الترجمة..

يتميز فكر ابن تيمية بالمزاوجة بين النقل والعقل، وإعمال مقاصد الشريعة

ما زلنا بحاجة للكشف عن حقيقة تأثر الفكر الإسلامي المعاصر بابن تيمية

متعة الترجمة تكمن في صعوبتها، فإذا خلتْ منها صارت روتينًا قاتلاً

فإلى الحوار:

نود في البداية أن تعطينا فكرة عن الكتاب ومحاوره.

كتاب (ابن تيمية وعصره) صدر سنة 2010 عن مطبوعات جامعة أكسفورد، وقد حرّره الباحثان: يوسف ربوبورت، والذي يشغل الآن أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة كوين ماري في لندن، بمعية الأستاذ الباحث الراحل شهاب أحمد (1965- 2015) والذي كان يعمل محاضرًا للدراسات الإسلامية في كلية القانون بجامعة هارفارد. والكتاب في أصله عبارة عن أوراق قدّمت لمؤتمر يحمل نفس اسم الكتاب “ابن تيمية وعصره” بتمويل من مايكل كوك، الباحث المشهور في الدراسات الإسلامية، وقد استضافته جامعة برينستون في أمريكا أيام 8-10 أبريل سنة 2005، ثم صدر في كتاب كما أسلفت.

الهدف من كتاب ابن تيمية وعصره كما سعى إليه محرّراه هو إعادة قراءة “الدرس التيمي” في كلّ مناحيه، ومحاولة تجاوز بعض الأطروحات التقليدية حوله، والتي سيطرت على “الأكاديميا” الغربية طوال عقود، وبخاصة ما كتبه المستشرق الفرنسي الشهير هنري لاووست. ونظرًا لغياب عمل متكامل وشامل يقدّم ابن تيمية وفكره إلى القارئ الغربي، ارتأى الباحثان أن يستكتبا مجموعة من الباحثين الغربيين ممن لهم اهتمام بالدرس التيمي، كلّه أو بعضه، فجاء الكتاب موزّعا على مقدّمة واثني عشر بحثًا. وقد قاربت هذه البحوث ابن تيمية من خلال دراسة ترجمة حياته وعلاقاته بمجتمعه وأساتذته وطلابه، كما بحثت فكره في علم الكلام، والفقه، وكتاباته العقدية حول الفرق الإسلامية وكذلك النصرانية، ليختم الكتاب ببعض البحوث التي تناولت تأثير ابن تيمية في الفكر الإسلامي سواء في حياته، أو بعد مماته حتى عصرنا الحاضر.  

وحين صدر الكتاب أوّل مرة أحدث زخمًا معرفيًّا حقيقيًّا حول ابن تيمية، واعتُبر من كثير من الباحثين الغربيين أنّه إعادة إنصاف لمفكّر مسلم ظلمته الأيديولوجيا، حيث أسهم الكتاب في محو تلك الصورة التي صورها ممن كانوا يُقدّمون على أنهم “خبراء الإرهاب” في المؤسسات الإعلامية الغربية، بل وحتى العربية، وأبرزت ابن تيمية على أنه المنظّر الأول للإرهاب والقتل، وشاعت تلك العبارة عن ابن تيمية “يستتاب أو بقتل” والتي طالما نُزعت من سياقاتها المعرفية، على أنها علامة وسمة للفكر التيمي.

فالكتاب بهذا الاعتبار قد أسهم بشكل إيجابي بإعادة تقديم ابن تيمية إلى العالم باعتباره من فحول المفكرين الذين حملوا مشروعا فكريا متكاملا، يحسن فهمه والاطلاع عليه، حتى يمكننا من فهم الظاهرة الإسلامية المعاصرة التي طالما أكثرت الاستمداد من ابن تيمية، سواء بفهم أو بغير فهم. 

كيف جاءت فكرة هذه الترجمة؟

علاقتي بالكتاب ترجع إلى سنة صدوره أول مرة، فتصفحت بعض مقالاته، ثم وجدتني أختمه كله في حوالي شهر. ووجدتُ فيه نمطا جديدا من الدراسات الأكاديمية التي تناول فكر ابن تيمية بعيدا عن اتهامه بالراديكالية وتشجيع العنف، واعتباره الملهم لجماعات التكفير المعاصرة، فكان كتابا يصحّ فيه آنذاك أن يُنعت بأنه يغرّد خارج سرب الأكاديميا الغربية. ولمّا عرضه عليّ الأخ الأستاذ أحمد عبد الجواد لترجمته لصالح الشبكة العربية، كنتُ متردّدا نوعا ما لانشغالي في التدريس، ثمّ عزمتُ على ترجمته ولكن بعد أن قرأته قراءة ثانية لأتأكّد أنّ الكتاب يستحقّ الترجمة، وأنه سيضيف جديدا للقارئ العربي، إن لم يكن على مستوى المعلومات والمادة العلمية، فعلى الأقلّ يفيده في الجانب المنهجي وتناول الأفكار. 

ما الصعوبات التي واجهتكم؟

متعة الترجمة تكمن في صعوبتها، فإذا خلتْ منها، صارت روتينا قاتلا، تذهب بكلّ جمال، وتُغيّب كلّ فرحة. ولا أدّعي أنني استثناء فيما يلاقيه المترجم عموما في ترجمة أيّ نصّ من لغة إلى لغة أخرى، ومن وعاء ثقافي إلى وعاء ثقافي مغاير. ولعلّ أوّل الصعوبات بالنسبة لي كانت إيجاد الوقت المناسب للترجمة. فأنا أدرّس في العادة ثماني عشرة ساعة أسبوعيا مع توابعها ولواحقها من التحضير والتصحيح، لذلك لا أكتمك سرّا أن جلّ الترجمة أنجزتها في فترة الصيف حين أخذت عطلتي، وكنتُ أبدأ الترجمة من بعد صلاة الفجر، حتى صلاة العشاء لا يقطعني عنها إلا لقيمات أو الفريضة، ما جعل الوالدة رحمها الله تقول لي: في المرّة القادمة حين تأتي إلى عطلة لا تحضر أيّ عمل معك!

كثرة الإحالات إلى النصّ العربي كانت أيضا تحدّيا كبيرا بالنسبة لي، إذْ كان عليّ أن أتحقّق من كل النصوص وأجدها في مظانها وأنقلها كما هي، ولعل بحث خالد الرويهب كان الأصعب في هذا لأنه رجع إلى مصادر كثيرة، بل ورجع إلى بعض المخطوطات التي لم أعثر عليها إلا عنده، وقد أرسلها إليّ شاكرا.

الصعوبة الأخرى هي في ترجمة المصطلح العلمي في حدّ ذاته، وتعدّد ترجماته ما بين الصحيح المتداول، والمربك، والخاطئ، ليس في الأكاديميا العربية فحسب، بل وحتى في الأكاديميا الغربية أيضا. وهذا مسلك يضع المترجم في حيرة معرفية كبيرة، ليس له معها إلا تحكيم عقله وذوقه، في غياب وحدة اصطلاحية أو مصطلحية ترفع هذا العبء عن المترجمين.    

وما الجديد الذي لفت نظركم؟

بحوث الكتاب في أغلبها متميزة مع تواضع معرفي في بعضها صراحة، لكنّ الكتاب في مجمله جاء بمثابة نقلة نوعية في الفكر التيمي في المؤسسات الأكاديمية الغربية. فابن تيمية قبل هذا الكتاب لم يكن له ذلك الحضور المعرفي القوي إلاّ من خلال كتابات المستشرق الفرنسي هنري لاووست، والذي يعتبر بحقّ شارح المتن التيمي في الأكاديميا الغربية، مثله مثل أرنست رينان في الدرس الرّشدي. وقد ظلّت معظم الدراسات الغربية عالة على ما كتبه لاووست، لا تكاد تتجاوزه أو حتّى تخطّئه إلاّ على استحياء. وهذا لا ينفي وجود كتابات متفرّقة هنا وهناك عن ابن تيمية، إلاّ أنها كانت مقاربات مجتزأة، لم تصل إلى قراءة متكاملة، أو لنقل لم تمثّل مدخلا شاملا لفكر ابن تيمية.

(ابن تيمية وعصره) جاء بمثابة “متن تيمي” أكاديمي يتيح للباحثين مدخلا لفكر ابن تيمية، يستطيعون من خلاله أن يتوسّعوا في دراسة ابن تيمية.   

كيف يختلف تناول ابن تيمية بين الباحثين العرب والغربيين؟

ليس كلّ ما ينتجه الأكاديميون الغربيّون دائما متميز، فبعضه يمتاز بالدّقّة والتحرّي والصّنعة العلمية العالية، وبعضه يمكن وصفه بالمتواضع الذي لا يضيف شيئا للقارئ العربي. نعم قد يكون مفيدا للقارئ الغربي، ويعطيه قدرا لا بأس به من المعلومات، لكنه لا يفيد القارئ العربي في شيء. ولعلّي أمثّل لك بما كتبه الشيخ العلاّمة محمد أبو زهرة عن ابن تيمية، فهو في رأيي يمثّل مدخلا متميزا قلّ نظيره لفكر ابن تيمية، وكل السلسلة التي كتبها الشيخ أبو زهرة بالمناسبة عن مذاهب الأعلام تعتبر جهدا نفيسا وعاليا لم نقدّره حقّ قدره للأسف!

الأكاديمي الغربي يكتب بعيدا عن الاستقطاب المذهبي الذي لا يكاد ينفكّ عن الباحث العربي أو المسلم الذي يكتب عن ابن تيمية أو الغزالي أو ابن رشد وغيرهم من حلقات الفكر الإسلامي الكبرى التي شهدها تاريخ هذه الأمّة. على الرّغم من أنّنا أيضا لا نستطيع تبرئة بعض هؤلاء الأكاديميين الغربيين من عقدة المركزية الغربية أو ميراث الاستشراق القديم؛ لكن للأمانة فإنّ كثرة كاثرة منهم تكتب من زاوية أكاديمية بحتة بعيدة عن الموروث الاستشراقي الذي ذكرناه.

الباحث الغربي ليس له اطلاع واسع على التراث كالذي نجده عند بعض باحثينا في العالم العربي، لكنّ هذا الباحث الغربي بما امتلكه من مناهج نقدية، نشأ عليها منذ بواكير دراسته الابتدائية، نجده يأخذ جزئية واحدة من فكر ابن تيمية، أو حادثة حكاها أصحاب التراجم عن ابن تيمية، ثم يجري عليها مناهج مختلفة بمقاربات متعدّدة، ليخرج لك في الأخير بورقة متميزة، وهذا شيء يغيب عن مؤسساتنا الأكاديمية العربية للأسف، والتي طغى عليها الجانب الوصفي وكثرة النقولات.

إلى أي مدى أنصف الكتاب ابن تيمية؟

أعتقد أنّ الكتاب وُفّق إلى حدّ بعيد في رسم صورة إيجابية لشيخ الإسلام ابن تيمية، وقرّب منهجه في فهم الإسلام ليس إلى جمهور الغربيين، بل إلى القارئ العربي أيضا، الذي رأى في الكتاب إنصافا عزيزا لشخصية ظلت تصنع الجدل طوال قرون، وما زالت كذلك إلى يوم الناس هذا.

حاول الكتاب أن يجيب عن سؤال متعلق بـ: هل هناك منهج تيمي واضح المعالم؟ فكيف رصدَ إجابة هذا السؤال؟

كانت هذه الغاية الأساسية من الكتاب، خاصة وأنّ التراث التيمي تراث كبير ومتشعّب، وفيه المتقدّم والمتأخر، مما يضع القارئ له أمام تحدٍّ معرفي في معرفة السابق منه واللاحق، وما الذي استقرّ عليه شيخ الإسلام وما الذي غيّر رأيه فيه. وقد خلص الكتاب إلى أنّ أهمّ ما يميّز فكر ابن تيمية هو مزاوجته بين النقل والعقل، ولا غرابة في ذلك وهو الذي كتب موسوعته الشهيرة “درء تعارض العقل والنقل” ودافع بشدّة عن اتّساق العقل والنقل في هذه الشريعة. كما أنّ الكتاب سعى لإبراز العقلية البراغماتية الفقهية عند ابن تيمية، أو ما يمكن أن نصفه باستنجاد ابن تيمية بالمصلحة وإعماله لمقاصد الشريعة، وقد ساق الكتاب أمثلة من اجتهادات ابن تيمية الفقهية وآرائه العقدية التي تعضد هذا الملمح في فكره.

أثر السياق الفكري والسياسي والاجتماعي في فكر ابن تيمية ومساره المهني.. كيف أوضحه الكتاب؟

أحسب أنّ هذا من الملامح المهمّة لهذا الكتاب، إذْ تتبع الكتاب السياقات التاريخية والاجتماعية والسياسية التي أثّرت في الدرس التيمي، وجعلته يتفاعل مع كلّ هذه المؤثرات، لنجد أنفسنا أمام هذا التراث الضخم، ولعلّ هذه السياقات هي التي جعلت القارئ لتراث شيخ الإسلام ابن تيمية يجد صعوبة في فهم بعض الآراء التي يحسبها متناقضة، أو التي يقع التناقض بين الناس في نقلها عنه، وكانت نابعة من ذلك الواقع الذي عايشه ابن تيمية في مراحل حياته المختلفة. وقد ناقش يوسف ربوبورت منهجه الفقهي وأعطى أمثلة عن تأثّر هذا المنهج بالسياقات المختلفة، على أنه لم يتوسّع فيها كثيرا صراحة، وكان يمكن للكتاب تتبّع هذا الرافد في تراث شيخ الإسلام، ولعلّ دراسة الصديق ياسر المطرفي الموسومة بـ”التصحيح الفقهي” قد أبانت هذا الجانب وسبرت أغواره بطريقة منهجية راقية.

كيف تناول الكتاب طبيعة تأثير فكر ابن تيمية في القرون التي أعقبت وفاته، وتلقِّي المسلمين في العصر الحاضر لأفكار ابن تيمية؟

صراحة هذا أطول مبحث في الكتاب وهو ما كتبه الباحث خالد الرويهب عن حضور ابن تيمية في القرون التي أعقبته، وأظنه من أكثر بحوث الكتاب التي لاقت نقاشا واسعا بين القراء. كما أن مسألة الاحتفال بالمولد وفكرة الخلافة كانتا المنطلق لرصد آراء ابن تيمية في العصر الحاضر ومدى تأثيره في مسار الفكر الإسلامي بكافة تمظهراته وفي شتّى مدارسه.

وما زلتُ أرى أنّ هذه المسألة في حاجة إلى كثير من الدراسات الرصينة التي يجب أن تكشف لنا عن حقيقة تأثر الفكر الإسلامي المعاصر بابن تيمية.

ما مشروعكم الجديد في الترجمة؟

أعمل على مشروع أخّر ظهوره هذا الوباء نسأل الله أن يرفعه عنا جميعًا؛ وذلك في حقل علم الكلام والفلسفة الإسلامية.. ولعلي أنتهي منه قريبًا بحول الله.