اقتضت حكمة الله تعالى أن يفضِّل بعض مخلوقاته على بعض؛ فقد فضَّل سبحانه طائفة من المرسلين على طائفة أخرى، قال تعالى: { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } (البقرة،253 ) ومن ذلك تفضيل الله ليلة القدر على سائر ليالي السنة، حيث جعلها خيرا من ألف شهر، قال تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (القدر،1-5 )

أسباب تسمية هذه الليلة بليلة القدر

لماذ سميت بـ ليلة القدر ؟

مجمل ما ذكره العلماء في سبب تسميتها بليلة القدر راجع إلى علل متعددة؛ أبرزها ما يلي:

–   موافقة هذه الليلة لإنزال الله تعالى فيها القرآن إلى السماء الدنيا جملة واحدة؛

–  ولأن الله سبحانه يُقدِّر فيها ما يشاء من الآجال والأرزاق والأقدار، إلى مثلها من السنة القابلة؛

–  وذلك لعِظَم قدرها وشرَف منزلتها؛

–  ولأن للطاعات فيها قدرا عظيما، وثوابا جزيلا؛

–  ولأن الله وعد من أحياها بالعبادة بالقدر الكبير والجزاء العظيم؛

–  ولأن الله أنزل فيها كتابا ذا قدر، على رسول ذي قدر، على أمة ذات قدر؛

–  ولأنه ينزل فيها ملائكة ذوو قدر؛

– ولأن الله تعالى قدَّر فيها الرحمة على المؤمنين (تفسير القرطبي،ج20،ص130-131، بتصرف شديد).

وعند تأمل متأنٍ لهذه المعاني السببية التي نصبها العلماء عللا لتسمية ليلة القدر بهذا الاسم، نجدها – في الواقع- متقاربة ومحتملة كلها، واللفظ يقبلها جميعها، ولا مرجِّح لأحدها على الآخر. .

 فضائل ليلة القدر

ما هي فضائل ليلة القدر ؟

ومن ذلك اعتبارها: ليلة مباركة، لكثرة ما ينزل فيها من الخير والبركة والثواب على العباد. قال تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} الآية (الدخان،2).

ليلة أنزل فيها القرآن، قال تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } (القدر،1). والمعنى أن ابتداء نزول القرآن كان في ليلة القدر. وقيل: أنزل الله القرآن كله إلى السماء الدنيا في هذه الليلة. ثم أنزل منجما في سائر الأيام موافقا لأسباب النزول (تفسير ابن عطية،ج5،ص86)، أو ابتداءً دون موافقة سبب من أسباب النزول.

ليلة الفصل والتقدير، فقد قال ابن عباس: يحكم الله أمر الدنيا إلى قابل في ليلة القدر ما كان من حياة أو موت أو رزق، لقوله تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } (الدخان،2-) (تفسير القرطبي،ج16،ص126).

تنزل الملائكة والروح (وهو جبريل) يصلون ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله تعالى. فهي ليلة مليئة بالسلامة والخير، ولا يعتريها شر. قال تعالى: { تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (القدر،4-5) (تفسير القرطبي،ج20،ص134).

في تعيين ليلة القدر

 يرى جمهور العلماء على أن ليلة القدر كائنة في شهر رمضان، بدليل أن الله أخبر بإنزاله القرآن تارة في شهر رمصان، وتارة أخرى في ليلة القدر، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرآنَ} الآية [البقرة،184]، وقوله: { إِنَا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ القدر} [القدر،1]. فدلّ ذلك على أن ليلة القدر من شهر رمضان. على أن تعيين ليلة بذاتها من هذا الشهر، لم يشكل محل اتفاق بين العلماء؛ على أقوال متعددة أبرزها ما يلي:

– إن ليلة القدر كائنة في العشر الأواخر من شهر رمضان، لقوله عليه الصلاة والسلام: (التَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، لَيْلَةَ القَدْر فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى) (رواه البخاري).

-إنها في أوتار العشر الأواخر، لقوله : (تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي الوِتْرِ مِنَ العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ) (رواه البخاري).

-وأشد الليالي رجاء هي ليلة السابع والعشرين، لقول  أُبي بن كعب في ليلة القدر: (وَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهَا، وَأَكْثَرُ عِلْمِي هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِيَامِهَا هِيَ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ) (رواه مسلم).

وللخروج من هذا الاختلاف، فإن من أحيى ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان فهو على خير كبير. وأما من قام العشر الأواخر من هذا الشهر، فإنه يكون أقرب إلى إدراكها. على أن من أحيى رمضان كله، فقد تحقق عنده ليلة القدر بناء على رأي جمهور العلماء القائلين بأنها كائنة في رمضان.

فضائل قيامها

ومن ذلك:

–  جعل الله عبادته في هذه الليلة خيرا من ألف شهر ليس فيها ليلة قدر، لقوله سبحانه: { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أْلِف شَهْرٍ} (القدر،3). وهكذا، فإن ألف شهر يوافق حوالي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر. وعلى هذا، فمن أحياها سنين طويلة، كأنما عاش أعمارا مديدة في طاعة الله. وهناك توجيه علمي آخر للمقصود بألف شهر ههنا، ليصير مرادفا لجميع الدهر. وذلك أن العرب تذكر الألف في غاية الأشياء، كما قال تعالى: { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} الآية (البقرة،96). والمراد بألف سنة جميع الدهر (تفسير القرطبي،ج20،ص131). وسواء أقلنا بأن المرد بألف شهر حقيقته (أي: ثلاث وثمانون شهرا ليست فيها ليلة القدر)، أم حملنا دلالة ألف شهر على الدهر كله، فإن ذلك يشكل باعثا قويا يدفع المسلم إلى الاجتهاد والصبر والمثابرة في إحيائها.

– مغفرة ذنوب العبد التي سبق له فعلها، لقول النبي : (مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) (رواه البخاري).

– كثرة الخير فيها، بحيث يكون من أحيى هذه الليلة على خير كثير. وبالمقابل، فإن من ضيَّع قيامها فقد ضيَّع الخير كله، لقول النبي عن رمضان: (إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ) (ابن ماجة بسند صحيح).

كيفية إحياء ليلة القدر

لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله عليه السلام عمل محدد يكون شرطا لصحة قيام هذه الليلة. لكن نصوص الشريعة ترشدنا إلى كيفية إحياء ليلة القدر من خلال:

– جنس العمل الصالح كالصلاة، وقراءة القرآن، وذكر الله، واستغفاره، ودعائه، من غروب الشمس إلى طلوع الفجر.

– قيام الليل أو صلاة التراويح سواء في أول الليل، أو وسطه، أو آخره.

– الإكثار من الدعاء الوارد في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: “يا نبي الله، أرأيت إن وافقت ليلة القدر، ما أقول؟” قال: (تَقُولِينَ: اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي) (رواه أحمد بإسناد صحيح).

منهجية فضلى للاستفادة من ليلة القدر

حتى لا يضيع المسلم فرصة ليلة القدر، ويكون من المحرومين فيها، الذين ضيعوا أجر هذه الليلة وحرموا ثوابها العظيم، يستحب للمسلم الحرص على التوجيهات التالية:

-تصحيح نية إحياء المسلم ليلة القدر وباقي ليالي رمضان، ومثل ذلك في صيامه وباقي عباداته، بأن تكون نيته خالصة لله تعالى، بحيث يبتعد المسلم عن الرياء والسمعة، وما أشبه ذلك مما يقدح في إخلاص نية العبادة لله تعالى. ويدخل في هذا الباب كذلك، المحافظة على نية قيام ليلة القدر بعد إحيائها، وذلك من خلال كتمان ما فعله المسلم وعدم التحدث به إلا للمصلحة المعتبرة شرعا، فقد قال رسول الله : (إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) (رواه البخاري).

– الاستعداد لشهر رمضان بالطاعات والنوافل ومطلق القربات إلى الله تعالى، قبل مجيء هذا الشهر. فمن ظن أنه سيبدأ الاجتهاد مع بداية رمضان، فقد أخطأ الطريق. وكذلك، من أراد الاجتهاد في العبادة مع بداية ليلة القدر ولم يكن قد تمرَّن على العبادة قبل ذلك، فقد أخطأ الطريق كذلك.

– الحرص على استغلال الوقت في شهر رمضان، وخاصة في العشر الأواخر، وفي ليلة القدر على وجه الخصوص، من خلال البعد عن فضول المباحات فضلا عن المحرمات والمكروهات، ليعمِّر المسلم وقته بالطاعات.

– تنويع العبادات، ما بين صلاة، وذكر لله، وقراءة القرآن، واستغفار، وتفكر في خلق الله وفي الدنيا وزوالها، وفي سنن الله في خلقه وفي مخلوقاته، حتى لا يصاب المسلم بالملل، فتفتر همته، ويضيع عزمه. فقد قال رسول الله : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا) (رواه البخاري ومسلم).

– وهذا لا يمنع المسلم من الدوام على عبادة واحدة إن آنس من نفسة قوة عليها ورغبة فيها، كالصلاة، أو قراءة القرآن، وهكذا سائر العبادات. وذلك أن الأمور بمقاصدها، والإنسان بصير بنفسه، عالم بحالها، ومطلع على أشواقها، وخبير بأحوالها. على أن المعتبر شرعا ليس كثرة العبادة أو طول القيام والسهر، مع غفلة القلب، وإجهاد النفس، بل المقصد تحقيق التقوى والقرب من الله تعالى. فقد قال تعالى في الهدي : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى } الآية (الحج،35).

اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا العشر الأواخر، اللهم بلغنا ليلة القدر، واجعلنا يا رب ممن صدق فيهم قول نبيك محمد : (مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) (رواه البخاري).