في مناسبات الحزن وفقدان الأحبة عادة ماترفع الأصوات وتنبري الأقلام وتلهج الألسنة بالثناء والمديح وذكر المآثر والمحاسن والبطولات على المتوفى حتى لا يكاد يخيل إليك إلا أن هذا الرجل كان معصوما عن كل زلل وخطيئة خاليا من النقائص والعيوب متفرغا لأعمال البر والتقوى فإذا سمعت أو قرأت عنه ، وأنت أعرف الناس به وأقرب الناس إليه -تشك بنفسك وتتوهم أنك ماكنت تعرف عنه شيئا ولم تكتشفه إلا بعد مماته.

هذا مايحدث عادة في عصر انقلبت موازينه وتغيرت أحوال أهله فصار الكبير فيهم لكع بن لكع والناطفق فيهم الرويبضة ، والعالم المبدع العبقري : من لايعرف أين ربه ، ولماذا خلقه ربه ؟

وبالمقابل لا نجد مكانا لعلم من أعلام الأمة ، ورزمز من رموز نهتضتها ، ولا نعرف فضلا لإمام من أئمة المسلمين الذين نذروا حياتهم لإحياء سنة محمد صلى الله عليه وسلم.

فهذا محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله ترعرع في دمشق الشام وفي أيام صباه هاله ورعاه ما آلت إليه حال الأمة : من جهل ، وخرافات وتقليد وبدع وضلالات بل من شرك ووثنيات .

سمعه شيخ من المشايخ ينهى عن منكر من المنكرات فقال له ذلك الشيخ : ألم تسمع بحديث النبي صلى الله عليه وسلم : ” دعوا الناس في غفلاتهم ” ؟!  قال الألباني وكان شابا : من روى هذا الحديث ؟ وماهي درجته ؟ ففوجئ الشيخ بهذا الشاب وعجز (بالطبع) عن إجابته ، فراح الألباني يبحث في بطون الكتب ، ويستأجر كتابا تلو كتاب ، فيفتش ، ويبحث ، ويدقق النظر ، حتى هداه الله عز وجل إلى الحديث بتمامه : ” دعوا الناس في غفلاتهم ، يرزق بعضهم بعض ” فخرجه وبين حال رواته وعرف درجته فخدثني مرة أن ذلك كان فاتحة عمله بهذا العلم الشريف.

شق طريقه بصعوبة بالغة بين بني قومه مقلدي المذهب الحنفي واهتدى إلى منهج السلف الصالح ، وكان من العلماء الذين آثروا على أنفسهم أن يزيلوا تراكمات الجهل والخرافات والتقليد والبدع  التي أثقلت كاهل الأمة وغطت بواعث النور والأمل فيها فرفع شعار  (التصفية والتربية ) ليكون مشروعه التغييري المشروع انقلابا لا كانقلابات قصار النظر ومتحمسي هذا الزمان وإنما أراد رحمه الله أن يغير هذا الواقع من جذوره ويعالج مواطن الخلل والضعف الذي أصاب الأمة بعد أن كبلتها قيود التقليد وحرفتها عن منهج الحق أحاديث ضعيفة وموضوعة درجت على ألسن الناس وملأت صحائف كتبهم.

فراح يذب عن سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم يبحث ويخرج ويحقق ، يفند الضعيف من الصحيح ، ويواصل الليل مع النهار ، بجد واجتهاد لا نظير له في هذا العصر ، أخذ مكانه في المكتبة الظاهرية في دمشق ، وكـأنه موظف من موظفيها ، ولم ينقطع عن عمله الذي يقتات منه ، وقد جاوز الستين من العمر فكانت دكانه لتصليح ساعات الناس وأفكارهم ! ولم يكتفِ بما أحدث في صفوفو مشايخ دمشق من جدال وإرباك ، جراء هذا المنهج الذي كان يدعو إليه بل راح يبذر بذار الخير في باقي مدن الشام فيتناوب على حمص وحلب وحماة وإدلب كل أسبوع مرة.

لقد هاجر الشيخ الألباني رحمه الله إلى الله عز وجل ثم طرد ثم هاجر وابتلاه الله عز وجل بما ابتلي به عباده الصالحين وعلماءه العاملين والنبي صلى الله عليه وسلم يبشر ورثته : ” أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه فإذا كان في دينه صلبا ، اشتد بلاؤه ، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة

لقد اشتد عليه البلاء ، واجتمعت عليه المحن وكادت له الخصوم ، فما نعلمه إلا كان راسخا كالجبال شامخا كالطود ثابتا على دعوة الحق ذابا عن منهج السلف ما غيره سجن ولا نفي ولا فقر في أوائل عمره ولا حرفته مغريات ولا صيت ولا شهرة ولا جائزة كانت في نهايات عمره !!

رحمك الله يا إمامنا وأسكنك فسيح جناته وجمعنا بك على حوض نبيه صلى الله عليه وسلم لقد آلمنا رحيلك وصعب علينا كثيرا فراقك ..

تخيلوا أنك لازلت تركض كالغزال وأنت في العقد الثامن من العمر ، توقظ إخوانك على صلاة الفجر كل يوم ، وتحملهم بسيارتك لتؤدوا الصلاة في جبل النزهة أو جبل الحسين فينهالوا عليك بالأسئلة والبحوث منذ طلوع الفجر ويترصدوا لك جلساتك في المساء لينهلوا من معين علمك ، ثم بعد ذلك يعتبون عليك لم لا تفتح بابك لكل قادم ولكل محب !!

غفر الله لك شيخنا الألباني ، إن النفس الكبيرة ترهق بدن صاحبها وإن الروح العظيمة لا يسع جسد مثل جسدك فسامحك الله وجعل مرضك كفارة وطهورا لك كيف لا يدوخ رأس وسع كل هذه الدراسات والبحوث والمشاريع العلمية والدعوية التي لو اجتمع عليها طائفة من أهل العلم طوال حياتهم لما أنجزوها ؟ كما أنهم لو اجتمعوا على إتمام ما بدأت به لما أتموه كما تريد.

رحمك الله رحمة واسعة وجزاك عن المسلمين خير الجزاء .