في اللقاء الأخير الذي جمعهما، استبقى الشيخ محمد الغزالي ضيفَه د. محمد عمارة حينما استأذن في الانصراف، ليهديه آخر كتبه: (نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم)، وليكتب له إهداءً دالاًّ على الرسالة التي نذر د. عمارة نفسَه لها، وعلى المهمة التي تنتظره بعد رحيل شيخه الغزالي!.. أما الإهداء (الرسالة/ والمهمة) فهو: “إلى أخي الحبيب الدكتور محمد عمارة داعية الإسلام وحارس تعاليمه، مع الدعاء.. محمد الغزالي”.

 

وفي مساء يوم الجمعة 4 رجب 1441ه، الموافق 28 فبراير 2020م صعدت روح المفكر الكبير محمد عمارة إلى بارئها، بعد أن أدَّى رسالته ومهمته في الدعوة إلى الإسلام وحراسة تعاليمه. والدكتور عمارة هو أحد أبرز روّاد مدرسة الإحياء والتجديد في العصر الحديث، وله بصمات واضحة في إثراء هذه المدرسة وتأصيل أطروحاتها، ونشر تراثها، ونفض الغبار عن سيرة أعلامها.. وذلك عبر حياةٍ ناهزت التسعين عامًا، وتراثٍ فكري يربو على الثلاثمائة كتاب.

ولد المفكر الكبير في ريف مصر، بقرية صروة- مركز قلين بمحافظة كفر الشيخ، في 8 ديسمبر 1931م، لأسرة ميسورة الحال، تحترف الزراعة. وقبل مولده، كان الده قد نذر: إذا جاء المولود ذكرًا أن يسميه محمدًا وأن يهبه للعلم الديني.

حفظ القرآن وجوَّده بكُتَّاب القرية، وفي سنة 1945 التحق بمعهد دسوق الديني الابتدائي، التابع للأزهر الشريف، ومنه حصل على الابتدائية عام 1949.. ثم على الثانوية الأزهرية من معهد طنطا الأحمدي عام 1954.. ثم التحق بدار العلوم ليتخرج فيها عام 1965م. ثم حصل على الماجستير منها عام 1970 عن أطروحة (المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية).. وعلى الدكتوراه عام 1975 بأطروحة عن (الإسلام وفلسفة الحكم).

في مشروعه الفكري

مبكرًا تفتحت الاهتمامات الوطنية لمفكرنا الراحل؛ فشارك وهو في المرحلة الابتدائية من أربعينيات القرن الماضي، في العمل الوطني- قضية استقلال مصر، والقضية الفلسطينية- بالخطابة في المساجد، والكتابة نثرًا وشعرًا.. وكان أول مقال نشرته له صحيفة (مصر الفتاة) بعنوان (جهاد) عن فلسطين، في أبريل عام 1948.. وتطوع للتدريب على حمل السلاح ضمن حركة مناصرة القضية الفلسطينية، لكن لم يكن له شرف الذهاب إلى فلسطين.

وبعد تخرجه في دار العلوم أعطى كل وقته لمشروعه الفكري؛ فجمع وحقق ودرس الأعمال الكاملة لأبرز أعلام اليقظة العربية الإسلامية الحديثة: رفاعة الطهطاوي، جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، عبد الرحمن الكواكبي، على مبارك.. وكتب عن أعلام التجديد الإسلامي وتيارات الفكر الإسلامي، عبر تاريخنا القديم والحديث والمعاصر، وعن السمات المميزة لحضارتنا الإسلامية والمشروع الحضاري الإسلامي في مختلف القضايا والمجالات (راجع سيرته الذاتية في آخر كتابه: الإسلام والأمن الاجتماعي، ص: 123، وما بعدها).

ومن أبرز كتابات الدكتور عمارة، إضافة لجمعه الأعمال الكاملة لكبار المفكرين والمصلحين: معالم المنهج الإسلامي، مستقبلنا بين العالمية الإسلامية والعولمة الغربية، الشيخ الغزالي.. الموقع الفكري والمعارك الفكرية، الإسلام والمستقبل، العرب والتحدي، الإسلام وحقوق الإنسان، الجامعة الإسلامية والفكرة القومية، قاموس المصطلحات الاقتصادية في الحضارة الإسلامية، إسلامية الصراع حول القدس وفلسطين، رسائل العدل والتوحيد (تحقيق).

بجانب ذلك، ناقش الدكتور عمارة عددًا من مشاريع التغريب والعلمانية؛ مثل نصر حامد أبو زيد، محمد سعيد العشماوى، حسن حنفي، لويس عوض.. وله إسهام بارز وقدرة ملحوظة في نقض هذه المشاريع، وتحصين العقل المسلم ضد انحرافاتها.

ومن أبرز كتاباته في هذا الصدد: الإسلام والسياسة.. الرد على شبهات العلمانيين، نهضتنا الحديثة بين العلمانية والإسلام، الإسلام بين التنوير و التزوير، سقوط الغلو العلماني، الإسلام في عيون غربية، قراءة النص الديني بين التأويل الغربي والتأويل الإسلامي، التفسير الماركسي للإسلام.

في تحوله الفكري

شهدت مسيرة الدكتور عمارة الفكرية، تحولاً مهمًّا، جعله نموذجًا للمفكر الباحث عن الحق، المتحرر من الهوى، المرتبط بما يؤديه إليه فكره؛ وليس الجامد على موقف واحد، فضلاً عن المرتبط بهواه ومصلحته المادية.. وذلك مع مجموة من رفاق دربه: المستشار طارق البشري والأستاذ عادل حسين، ثم لاحقًا د. عبد الوهاب المسيري؛ بحيث مثَّلوا ظاهرة في فكرنا المعاصر ذات دلالات مهمة (سبق أن تناولت ذلك في مقال: بين البشري وعمارة.. شهادة فكرية على تحولات القرن العشرين).

ففي مرحلة مبكرة من حياة الدكتور عمارة ارتبط بالحركات الماركسية واليسارية؛ ليس من موقف عقدي ينكر الألوهية ويجحد الدين، فهو الأزهري النشأة الدرعمي التخرج؛ وإنما من موقف فكري يناصر قضايا الفقراء والمهمَّشين، ويدعو للعدالة الاجتماعية.

وعن تلك المرحلة وذلك التحول يقول د. عمارة: “كانت الحركات الماركسية تركز أساسًا على قضية العدل الاجتماعي. وهذه ميزة قد جعلت لها جاذبية كبيرة، وأحدثت حالة انبهار لكل من يتطلع للعدل الاجتماعي، وخاصة من (يَدُهم في النار)، ويخوضون معارك ومشكلات ضد رموز الإقطاع والاستغلال. وقد ساعد على ارتباطي بحركة (أنصار السلام) تقديرها للدور الذي كنت أمارسه في النضال ضد الإقطاع أو في الحركة الطلابية أو في الفكر. وبالفعل وخلال فترات قصيرة كنت متخطيًا للوائح في الحصول على العضوية، وحصلت عليها قبل الوقت المحدد لائحيًّا. وقد كان ارتباطي بهذا التيار هو ارتباط بتيار سياسي نضالي يركز على قضية (العدل الاجتماعي)؛ وهي قضية رئيسية وأساسية كنت مشغولاً بها جدًّا، وكان هذا التيار هو التيار الوحيد العامل في هذا الاتجاه في مصر في ذلك الوقت” (المشروع الفكري للدكتور عمارة، د. يحيى جاد، ص: 485).

علاقته بالشيخ الغزالي

ومن العلامات المهمة في مسيرة د. عمارة علاقته بالشيخ المجدد محمد الغزالي، رحمها الله تعالى، وهي العلاقة التي بدأت في النصف الثاني من سنة 1983، حين كتب الأديب اليساري عبد الرحمن الشرقاوي فصولاً في (الأهرام) بعنوان (علي: إمام المتقين)، وضمّنها رؤية مشوهة للتاريخ.. وكان الشيخ الغزالي ممن انتقد هذه الرؤية اليسارية في تناول تاريخ الإسلام.. وذلك في محاضرة عامة له بدولة قطر؛ التي كان يقيم فيها آنذاك، أستاذًا بجامعتها.

نشرت الصحف ملخصًا لكلام الشيخ الغزالي، وفوجئ د. عمارة بأن اسمه ضمن مجموعة كُتاب وأدباء ذكرهم الشيخ في المحاضرة؛ باعتبارهم رموزَ ما كان يُسمَّى وقتها “اليسار الإسلامي”.. لم تكن أية صلة قد نشأت بينهما حينئذ، لكن أحد الشباب ممن كان يتابع كتابات عمارة- دون معرفة شخصية- وفي الوقت نفسه كان من مريدي الشيخ ومحبيه.. حاول أن يلطف الأجواء بينهما؛ فعرض بعض مقالات عمارة على الشيخ الذي فوجئ بمحتواها، وبأنها تخالف ما كان نُقل له عن المفكر الكبير..

لم تمض أيام حتى أرسل الغزالي رسالة تفيض رقة وتقديرًا للدكتور عمارة.. يعتذر فيها بوضوح، وينصف الرجل ويخلع عليه أوصافًا جليلة.. بل قرر الغزالي أن عمارة بكتاباته الرصينة سيكون امتدادًا للعقاد وعبقرياته.. وكانت هذه الرسالة البداية في رحلة التعارف، والعلاقة الوطيدة، والصلة الروحية والعقلية؛ التي جمعت بينهما حتى وفاة الشيخ رحمه الله، بعد ثلاثة عشر عامًا..

يقول د. عمارة عن وقْع الرسالة على نفسه: إنها “هزت كياني من الأعماق.. لقد وجدتُني أمام وثيقة لا يكتبها إلا واحد من عظماء الرجال.. فهذا الشيخ الجليل- الذي يقع مني موقع الأستاذ من التلميذ- يجلس في موقعه هذا ليراجع نفسه.. وليعلن لي عن تصحيحه لموقفه مني.. لا في إطار الرسالة فقط، وإنما علنًا وعلى رءوس الأشهاد. حقًّا، إنه رجل أوّاب” (الشيخ الغزالي.. الموقع الفكري والمعارك الفكرية، ص: 107).

وداع مهيب

وبعد رحلة العطاء، التي امتدت لستين عامًا، أثمرت مئات الكتب والدراسات والمقالات والمحاضرات، في زهدٍ واعتكافٍ في محراب الفكر، لا يقوى عليهما إلا أولو العزم والوعي.. آن للجسد أن يستريح، وللروح أن تصعد لخالقها، شاهدةً على هذه المسيرة الحافلة النابضة بالفهم والاجتهاد والتجديد، وبالجهاد العلمي.

وقد كان الآلاف من محبي المفكر الراحل في وداعه بمسجد (الحمد) بالقاهرة، للصلاة على جثمانه الطاهر.. وفي تشييع جنازته، بمسقط رأسه بقرية (صروة).. وفي مواقع التواصل الاجتماعي، يلهجون بالدعوات أن يتغمده الله تعالى بواسع رحماته، وأن يجزيه خيرًا عما قدَّم للفكر الإسلامي وعيًا ومنافحةً ونشرًا وإحياءً، وأن يجعل فيما خلَّفه من تراثٍ ومحبيِّن عوضًا في أداء (الرسالة/ والمهمة): الدعوة إلى الإسلام وحراسة تعاليمه، والمرابطة على ثغور الوعي والفكر.