الهداية من المفاهيم القرآنية التي زخرت آيات القرآن بالحديث عنها، والهداية كما تحدث عنها القرآن ليست مرتبة واحدة ولا نوعا واحدا، ومن ثم يتحدد معناها حسب مرتبتها في القرآن.

وهي بالاستقراء أربع مراتب:

المرتبة الأولى: الهدى العام، وهو هداية كل نفس إلى مصالح معاشها وما يقيمها وهذه المرتبة أعم مراتب الهداية.

قد قال سبحانه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 1 – 3] فذكر سبحانه أربعة أمور عامة: الخلق، والتسوية، والتقدير، والهداية.

وجعل التسوية من تمام الخلق، والهداية من تمام التقدير قال عطاء “خلق فسوى أحسن ما خلقه وشاهده قوله تعالى: { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } [الفرقان: 2]

المرتبة الثانية: الهدى بمعنى البيان والدلالة والتعليم والدعوة إلى مصالح العبد في معاده ، وهذا خاص بالمكلفين، وهذه المرتبة أخص من المرتبة الأولى، وأعم من الثالثة الآتية.

 المرتبة الثالثة: الهداية  المستلزمة للاهتداء، وهي هداية التوفيق، ومشيئة الله لعبده الهداية، وخلقه دواعي الهدى وإرادته  والقدرة عليه في نفس العبد، وهذه الهداية التي لا يقدر عليها إلا الله عز وجل.

المرتبة الرابعة: الهداية يوم المعاد إلى طريق الجنة والنار.

وفي السطور نتحدث عن كل مرتبة بشيء من التوضيح والبيان:

المرتبة الأولى: الهداية العامة

وهي هداية كل نفس إلى مصالح معاشها وما يقيمها، وهذه أعم مراتب الهداية. قال تعالى : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 1 – 3] فذكر سبحانه أربعة أمور عامة: الخلق، والتسوية، والتقدير، والهداية .

والمراد بالهداية العامة هنا : الهداية العامة لمصالح الحيوان في معاشه ، ليس المراد هداية الإيمان والضلال بمشيئته ، وهو نظير قوله: { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [طه: 50] أي هدى كل شيء إلى ما يفيده في حياته الدنيا.

فأعطاه خلقه، أي أوجده في الحياة، وهداه هداية التعليم والدلالة على سبيل بقائه وما يحفظه ويقيمه.

ويطلق على هذا النوع أيضا : الهداية العامة التكوينية، وهي التي أعدّها اللَّه سبحانه وتعالى في طبيعة كلّ موجود حيث تسري بطبعها أو باختيارها نحو كمالها، فالفأرة تفرّ من الهرة ولا تفرّ من الشاة، والنّمل يهتدي إلى تشكيل جمعية وحكومة، والطفل يهتدي إلى ثدي أمه. فكلُّ شي‏ء في الوجود مجهّز بما يهديه إلى الغاية التي خُلق لها؛ قال تعالى: { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [طه: 50]

المرتبة الثانية : هداية الإرشاد

المرتبة الثانية من مراتب الهداية، هداية الإرشاد والبيان للمكلفين، وهذه الهداية لا تستلزم حصول التوفيق واتّباع الحق، وإن كان حصولها شرطا في التوفيق أو سببا فيه، لكن حصول الشرط لا يستلزم حصول المشروط بالضرورة.

بمعنى أن  التوفيق من شرطه حدوث العلم، فالعلم شرط لحصول التوفيق، لكن قد يحدث العلم وهو الشرط، ولا يحصل المشروط ، وهو التوفيق، فكم من شخص يعلم أمر الله ومراده، لكنه لا يتبعه.

ومن أمثلة هذا المرتبة في القرآن قوله تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [فصلت: 17]

وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة: 115]

فهداهم هنا : معناها : هداهم هدى البيان والدلالة والإرشاد والتوجيه، فلم يهتدوا  هدى التوفيق والعمل ، فكانت النتيجة أن أضلهم عقوبة لهم على ترك الاهتداء أولا بعد أن عرفوا الهدى فأعرضوا عنه، فأعماهم عنه بعد أن أراهم إياه.

وهذا النوع من الهداية لا يختص بالله سبحانه، بل تثبت للرسل عليهم السلام، وللدعاة والمصلحين.

فقد أثبتها الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]  أي أنك ترشد وتبين .

لكنه نفى عنه هداية التوفيق الآتية في النوع الثالث، فقال سبحانه : {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]

الفرق بين هذه المرتبة والمرتبة السابقة

المرتبة السابقة عامة للخلق جميعا، مكلفهم وغير مكلفهم.

أما هذه المرتبة، فإنها تخص المكلفين فقط، وهي حجة الله على خلقه التي لا يعذب أحدا إلا بعد إقامتها عليه قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقال تعالى : {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165]

وقال تعالى : {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ } [الملك: 8، 9]. فأهل النار قد حدثت لهم هذه الهداية، التي هداية البلاغ والإرشاد.

فأقام الله عليهم حجته ، بأن أخلى لهم الطريق والقرار للاختيار ، وأبلغتهم الرسل بطريق الصراط المستقيم حتى كأنهم يشاهدونه عيانا، وأقام لهم أسباب الهداية ظاهرا وباطنا، ولم يحُل بينهم وبين تلك الأسباب. ومن حال بينه وبين أسباب هذه الهداية منهم لم يعذبه.

فمن الأسباب التي ربما يقدرها الله على العبد فتحول بينه وبين أسباب هذا النوع من الهداية: زوال العقل، أو الصغر الذي لا تمييز معه، أو نشأته بناحية من الأرض لم تبلغه دعوة رسله، فإن هؤلاء لا يعذبهم حتى يقيم عليه حجته .

المرتبة الثالثة: هداية التوفيق والإلهام

المرتبة الثالثة من مراتب الهداية، هي هداية التوفيق والإلهام، وخلق المشيئة المستلزمة للفعل، وهذه المرتبة أخص من التي قبلها، فالله لا يُعطيها لكل الناس. فهو يخص به من يشاء.

وهذه المرتبة تستلزم أمرين:

 أحدهما: فعل الرب تعالى وهو الهدى بمعنى هداية التوفيق والإلهام.

وثانيهما: فعل العبد، وهو الاهتداء وهو أثر فعله سبحانه، فهو الهادي والعبد المهتدي؛قال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} [الكهف: 17].

ولا سبيل إلى وجود الأثر إلا بمؤثره التام،ـ فإن لم يحصل فعل الله، لم يحصل فعل العبد؛ ولهذا قال تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [النحل: 37].

هذا النوع خاص بالله تعالى، وهذا النوع من الهداية خاص بالله تعالى وحده، لا يملكه الأنبياء ولا المقربون، ولا أحد من حلقه.

قال تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [النحل: 37].

وهذا صريح في أن هذا الهدى ليس له صلى الله عليه وسلم ولو حرص عليه، ولا إلى أحد غير الله، وأن الله سبحانه إذا أضل عبدا لم يكن لأحد سبيل إلى هدايته كما قال تعالى { مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ } [الأعراف: 186]. وقال تعالى : {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39].

المرتبة الرابعة : الهداية إلى الجنة والنار

المرتبة الرابعة  من مراتب الهداية: الهداية إلى الجنة والنار يوم القيامة:

فأما الهداية إلى الجنة، فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} فهذه هداية بعد قتلهم، فقيل المعنى: سيهديهم إلى طريق الجنة ويصلح حالهم في الآخرة بإرضاء خصومهم وقبول أعمالهم.

وأما الهداية إلى النار، فقد قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ}.