ما الذي يصنع الحياة الجيدة ؟ ما هي مكونات السعادة الدائمة ؟

في كتابهما الشيق «الحياة الجيدة: دروس من أطول دراسة علمية للسعادة في العالم»، ينقل الطبيب النفسي روبرت والدينجر وعالم النفس السريري مارك شولز الدروس الرئيسية والمستخلصة من دراسة حياة مئات الأفراد خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين. وأهم درس خرجا به في كتابهما هو الأهمية القصوى للعلاقات الإيجابية بين الأشخاص طوال العمر.

يعمل الدكتور والدنجر الأستاذ الجامعي بكلية طب جامعة هارفارد مع السيد شولز الأستاذ في كلية برين ماو في قسم دراسة تنمية البالغين في هارفارد، وهو مشروع بحثي استقصائي قائم على جمع البيانات منذ  85 عاما.

بدأت الدراسة كمشروعين طوليين مستقلين – الدراسات الطولية طريقة بحثية تقيس ظاهرة ما خلال فترة زمنية معينة – المشروع الأول يضم 268 طالبًا في السنة الثانية من جامعة هارفارد وهذا المشروع له قابلية للتطور مع مرور الزمن.

المشروع الثاني يدرس 456 مراهقا لا تتجاوز أعمارهم 14 عامًا، نشأوا في أفقر أحياء مدينة بوسطن الأمريكية. كان الغرض من الدراستين – تم دمجهما  في دراسة واحدة – التنبأ بمؤشرات الصحة والسعادة والازدهار في سن الرشد والمراحل التي تليها.

أجرى الباحثان في بداية المشروع مقابلات مع المشاركين وأولياء أمورهم، وأخضعوهم  للفحص الطبي.

وبالرغم من وفاة بعض المشاركين الأصليين ، إلا أن الدراسة استبدلتهم بالزوجات أو الأبناء  كمشاركين إضافيين.

يتطلب البروتوكول الحالي من المشاركين إكمال استبيان شامل كل عامين، والسماح بالكشف عن السجلات الطبية كل خمس سنوات، والموافقة على المقابلة وجها لوجه كل 15 عاما. وتغطي الأسئلة جانب من حياة المشاركين مثل: الأسرة والعمل والصحة العقلية والبدنية وآرائهم حول الحياة والسياسة والدين.

تستوعب بنود التقييم أيضا كافة المجالات وبجمع البيانات وتحليلها تتشكل لوحة متكاملة عن حياة المشارك وستظهر للعيان مع مرور الوقت.

لا يعتبر كتاب “الحياة الجيدة” بحثا أكاديميا شاملا، إنما تلخيص أفكار الدراسة وتقديم نصائح عملية تتعلق بمساعي مطاردة السعادة.

وبحسب تعبير المؤلفين فإن الروابط الاجتماعية، والصحة العقلية والبدنية وطول العمر هي مفاتيح للسعادة.

 إن تطوير المهارات التي تمكن المرء من تنمية علاقاته الإيجابية مع الآخرين والحفاظ عليها لا تقل أهمية عن التغذية السليمة، بالإضافة إلى التمارين الرياضية، وساعات النوم الكافية، وتجنب العادات الضارة مثل التدخين.

ومن السهل اعتبار هذه العلاقات الاجتماعية أمرا مفروغا منه في مجتمعات تحكمها اليوم الفردية والتنافسية العالية.

كذلك تعتبر المرونة المعرفية عاملا مهما في تقوية الروابط الاجتماعية حيث تضيف للإنسان مهارات جديدة تمكنه من رؤية العالم بتجلي، وتجسد استيعاب مشاعر التعاطف والاهتمام بالآخرين.

لاحظ المؤلفان أيضا كيفية استحواذ التقنيات الحديثة مثل الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي على عقول الناس، وأمست حاجزا يفصل الأفراد عن حضور فعاليات مجتمعاتهم، سواء كانت سعيدة أم حزينة.

وشدد المؤلفان على أهمية إيجابية العلاقات في بيئة العمل، بالإضافة للتفاعل القصير والإيجابي مع الغرباء، مما يترك أثرا في تحسين الحالة المزاجية .

أصبح تعلم المهارات الشخصية والعاطفية مهمًا بشكل متزايد نظرًا لوباء الوحدة الذي تسارع انتشاره بسبب جائحة كوفيد 19 وما صاحبه من أنماط حياتية جديدة كرست وجوده أكثر مثل العمل والتعليم عن بُعد.

الوحدة ليست العزلة ؛ بل هي عزلة اجتماعية شعورية، فالأشخاص الذين يعانون من ألم الوحدة يتعرضون لتجارب تكوين علاقات اجتماعية أقل إيجابية من الطموح المنشود.

يفضل الشخص المنفتح مزيدا من التفاعل الاجتماعي والعكس بالنسبة للانطوائي، بينما يندر وجود أولئك الذين اعتزلوا الحياة تنسكا.

ومن أجل الوصول للسعادة، يروي المؤلفان في كتابهما ” الحياة الجيدة ” بتفاصيل عميقة صراعات وإخفاقات وانتصارات المشاركين في حلقات متسلسلة.

استعرض الكتاب في أحد فصوله قصة رجل يدعى نيل، عانت والدته من إدمان الكحول ثم وجد نفسه يحاول علاج ابنته من نفس المشكلة.

سأل نيل في وقت من الأوقات أحد المحاورين. «هل يمكنني الحصول على رأيك المهني ؟»  “هل هناك أي شيء يمكنني القيام به لإخراجها من هذه الحالة ؟ هل تعتقد أنني فعلت شيئا خاطئا ؟ ” .

يوضح المؤلفان أهمية موضوع الارتباط الاجتماعي من خلال الإشادة بالطريقة التي تعامل بها نيل وزوجته مع ابنتهما: “في بعض الأحيان كان عليهما التراجع، وفي أوقات أخرى كان عليهما التدخل لكنهما لم يبتعدا قط “.

في فصل آخر من الكتاب، توضيح لكيفية تحسين وتطوير حياة أطفال نشأوا في أوساط عائلية مضطربة مضطربة بشرط توفر علاقة إيجابية واحدة على الأقل مع شخص بالغ، مثل معلم المدرسة أو مدرب لعبة رياضية.

السعادة ليست وجهة بل هدف يجب تحقيقه. إنها ليست حالة من الوجود ولكنها عملية تحول مستمرة. والحياة الطيبة لا تخلو من خيبات الأمل والإخفاقات والصراعات.

السعادة ليست وجهة، ولا هدف يجب تحقيقه، كما أنها ليست حالة دائمة، إنها عملية تحول مستمرة، فالحياة الطيبة لا تخلو من خيبات الأمل والإخفاقات والصراعات.

أدرك والدينجر وشولز هذا الغموض في تفسير السعادة ولذا فإنهما يدعمان قضيتهما من خلال الاعتماد على مصادر متعددة للبيانات، بما في ذلك الدراسات والأبحاث الطولية الأخرى التي أجراها علماء النفس الاجتماعي. ولتوضيح وجهة نظرهما عن السعادة اعتمدا على مفهوم أرسطو عن مفهوم (اليودايمونيا Eudaimonia ) باعتباره مختلفا عن (الهيدونيا hedonia) حيث تتميز سعادة (اليودايمونيا) بالهدف والمعنى والازدهار والبحث عن الفضيلة والمعنى ومكوناتها، وهي مهمة لرفاهية الحياة الجيدة، بينما تتميز سعادة (الهيدونيا) باللذة والمتعة غالبا ما ترتبط بفعل ماهو جيد والرعاية الذاتية مع تحقيق الرغبات وبمشاعر السرور والفرح.

إن السعي وراء السعادة قد يأتي بنتائج عكسية، فالفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل تعافى من نوبة اكتئاب كبيرة، فكتب في كتابه “النفعية” “ظننت أن السعداء هم أولئك الذين أشغلوا عقولهم بشيء آخر غير سعادتهم ؛ وعملوا على إسعاد الآخرين وتحسين حياة البشرية، أو باتباع طريق العمل في الفنون، ثم اكتشفت أن السعادة الحالة الوحيدة المنشودة كغاية مثالية في ذاتها ، لا كوسيلة لأمر آخر، وأن رغبة البشر باتباع كل تلك الطرق والمساعي ماهي سوى وسيلة لتحقيق هذه الغاية”.

 في كتاب ” الحياة الجيدة ” لا توجد إشارة أو ذكر لآراء ستيورات ميل، ولكن نظرا لتركيز المؤلفين على سعادة (اليودايمونيا)، وازدهار الإنسان كعملية وليست وجهة، أظن أنهما سيجدان توافقا مع ميل.


ريتشارد ماكنالي