اضطلعت الشبكة الدولية منذ ظهورها بدور هام في المجال البحثي، ففي سنوات معدودات تمكنت من تيسير عملية البحث وتغيير طرائقه المعتادة وتطوير كيفياته وسبل توظيفه، وذلك من خلال إتاحة الكتب والمصادر الأولية مثل الوثائق والدوريات النادرة والأرشيفات العالمية التي كان الاطلاع عليها مقصورا على فئة محدودة من الباحثين، وقد لعب موقع أرشيف العالمي الذي تأسس عام 1996 الدور الأكبر في إتاحة ملايين الكتب للباحثين من كافة أنحاء العالم، وأعقب هذا ظهور عدد من المواقع البحثية التي أوجدت بيئة علمية وتواصلا بين الدارسين، وقدمت خدمات بحثية متكاملة. 

ومنذ بدايات الألفية الثالثة أخذت المواقع البحثية في الظهور والانتشار في العالم العربي، فظهر أولا “ملتقى أهل التفسير” في نهايات عام 2002م، ثم المكتبة الشاملة 2005م، ثم موقع الألوكة 2006م، والمكتبة الوقفية، ومركز تفسير للدراسات القرآنية 2008م، وهو مركز وقفي مختص بالقرآن وعلومه ومقره في مدينة الرياض، وقد غدا في سنوات قلائل واحدا من أهم المواقع العالمية في هذا المجال، وفيما يلي نقدم نبذة عن: ملامح تجربة المركز في الفضاء الإلكتروني، وعوامل تميزه، وجهوده في تطوير الدرس القرآني.

نشأة المركز وأقسامه

بدأ المركز على هيئة منتدى حواري جرى إطلاقه في عام 1423ه/2002م بعنوان (ملتقى أهل التفسير)، واستهدف القائمون عليه أن يكون حاضنة للمتخصصين في الدراسات القرآنية يتدارسون من خلاله مختلف القضايا العلمية والبحثية، ويعبرون عن أفكارهم ورؤاهم، ولاقي الملتقى نجاحا كبيرا للحاجة الماسة إليه ولكونه يقدم مادة علمية لا تقدمها المواقع الإسلامية العامة، من ناحية أخرى نجح الملتقى في خلق جسور من التواصل بين إدارة المنتدى والباحثين من كافة الأرجاء، وبعد ست سنوات تم تأسيس مركز تفسير في مدينة الرياض عام (2008م)، وكان من الضروري أن يكون للمركز واجهة إلكترونية تعبر عنه، وتبرز رؤيته ورسالته وجهوده، ومن هنا تم إطلاق موقع (مركز تفسير للدراسات الإسلامية) على الشبكة، ثم أعيد إطلاقه بعد سنوات ليكون أكثر استجابة لحاجات الباحثين.

وتعبر الواجهة الرئيسية لصفحة المركز عن التنوع والثراء فهي تضم عددا من الأقسام والصفحات الفرعية وهي: مقالات، وبحوث، وحوارات، وملفات، ووسائط تشمل محاضرات ودروس ولقاءات. علاوة على صفحة الإصدارات المطبوعة التي أصدرها المركز وتبلغ نحو 67 إصدارا اختيرت موضوعاتها بعناية، وصفحة التطبيقات الالكترونية.

وينفرد الموقع بقسم خاص للدراسات الغربية حول القرآن تحت مسمى (استشراق)، وهو من أهم أقسام الموقع وأكثرها إفادة للباحثين المختصين بالدراسات القرآنية أو المعنيين بالتثاقف الحضاري بين الشرق والغرب، ويقدم ترجمات لكلاسيكيات الدراسات الغربية حول القرآن كما يضم آخر ما أنتجه الفكر الغربي المعاصر، ويروم المركز من وراء هذه الترجمات إلى” جسر الهوة بين الباحثين العرب في حقل الدراسات القرآنية وما يُكتب في الدوائر الغربية حول القرآن وعلومه، عبر طرح ترجمات مرتبة لعيون الدرس الغربي للقرآن، تعين على تمكين الباحث العربي من التعرف عبرها على ملامح هذا الدرس، ومتابعة جديده بصورة دائمة؛ حتى تتخلق لدينا الأرضية اللازمة لميلاد حركة بحث في الأوساط العربية للدراسات القرآنية قادرة فيما بعد على النهوض بعمل مثاقفات مؤصلة مع الفكر الغربي وأطروحاته حول القرآن وعلومه، والتي لطالما حجب تكونها وتعميق مقارباتها وتكثّير سواد المشتغلين بها عدمُ توفر القدرة على مطالعة الطرح الغربي” [1]، ويفهم من هذا أن الهدف ليس فقط نقد المنتج المعرفي الغربي، وإنما دفع وتطوير الدراسات القرآنية العربية من خلال عملية المثاقفة، وهذا الاتجاه يكاد ينفرد به مركز تفسير دون غيره من المنصات العلمية الإسلامية التي تعنى بالأساس بخدمة طلبة العلم لا الإسهام في تطوير الدراسات الإسلامية وتحديث أدواتها ومناهجها.

التطبيقات والمنصات الإلكترونية

شغل القائمون على المركز بأمر طرح خدمات بعضها يخدم الباحثين والدارسين في الدراسات القرآنية، وبعضها الآخر للمهتمين بالقرآن والراغبين في تلاوته وفهم معانيه وتدبره؛ وفي هذا السياق طرح المركز بعض التطبيقات الإلكترونية التي تؤدي عددًا من الخدمات لمحبي القرآن الكريم وعلومه، وبالتضافر مع هذا تم إطلاق بعض المنصات الإلكترونية الخاصة بالباحثين، وفيما يلي نعرف ببعض التطبيقات والنوافذ الإلكترونية التابعة للمركز.

تطبيق (آية): وهو يضم عددا من التفاسير والترجمات لمعاني القرآن تناسب كافة الشرائح العمرية ويتيح للمرء أن يتابع ختم المصحف بيسر، وقد نال التطبيق جائزة الكويت الدولية للقرآن الكريم كأفضل تطبيق قرآني في عام 2017.

– تطبيق (الكشاف): وهو عبارة عن مكتبة قرآنية بها العديد من المزايا والخدمات المهمة لطلبة العلم والباحثين، حيث يضم هذا التطبيق أكثر من (50) كتابًا وأكثر من (490) مجلدًا في أكثر من (200) ألف صفحة، مع إمكانية البحث بطريقة يسيرة.

– تطبيق (مصحف سورة): وهذا التطبيق عبارة عن مصحف إلكتروني، وهو يمكن المتصفح للتطبيق من تحديد الكلمة داخل المصحف، ويقدم خدمات على مستوى الكلمة من مثل: معنى المفردة، وصورتها إن وجدت ولم يكن في وضعها محذور، والموقع الجغرافي، وتصريف الكلمة، وإعرابها إعرابًا دقيقًا، ومرات تكرارها في المصحف، وتدعم واجهة المصحف حاليا اللغَةِ العربية والإنجليزية والأردية والبنغالية، وجاري استكمال اللغات الأخرى.

– أكاديمية تفسير:ثم أنشأ المركز بعد ذلك أكاديمية تفسير، وهي مؤسسة تعليمية تنتهج مبدأ (التعليم عن بعد) وتعنى بإيجاد فريق من المفسرين ذوي المهارات العلمية العالية، وتتضمن الأكاديمية ثماني مقررات دراسية وهي مقررات لا غنى عنها لأي مفسر مثل: علوم القرآن، والتفسير، والقراءات، وبالإضافة إلى ذلك تتيح الأكاديمية دورات متخصصة في العلوم القرآنية، وحظيت الأكاديمية منذ إنشائها بقبول واسع من الدارسين، إذ تشير صفحتها الالكترونية إلى أنها قامت بتخريج 13 دفعة وأن عدد الطلاب الذين انتسبوا إلى المقررات الأساسية بلغ 23317 طالبا من 115 دولة عبر العالم.

– مرصد تفسير: ويعد واحدا من أهم جهود المركز وأكثرها تميزا، وتم إطلاقه منذ عامين ليلبي الحاجة القائمة إلى إنشاء منصة تُعنى بالجمع والرصد لما يتعلق بالواقع العلمي الخاص بالدراسات القرآنية، ويصف الدكتور عبد الرحمن الشهري مدير عام مركز تفسير العلاقة بين المركز والمرصد بالقول: “إنّ مرصد تفسير وموقع تفسير كجناحي الطائر، كل منهما يقوم بمهمة لا يُستغنى عنها؛ فموقع تفسير يهدف إلى عدد من الأمور يمكن إجمالها في: خلق فضاء معرفي مؤصّل للدراسات القرآنية على شبكة الإنترنت، وإثراء ساحة البحث في الدراسات القرآنية بالعديد من المضامين المعرفية ذات التميّز والريادة، وتنمية وعي الباحثين بمستجدّات الدراسات القرآنية وتطوّراتها. وأما مرصد تفسير فيختص بالرّصد والمتابعة المستمرة للواقع المعرفي والبحثي والمؤسّسي للدراسات القرآنية، ويطرح مجموعة من التقارير التي تلاحق هذا الواقع في ماضيه وحاضره وتحوله لمعرفة علميةٍ ورقميةٍ تسهم في كشف هذا الواقع وتجليته والتمكن من رسم مخططات تطويره والنهوض به واستشراف مستقبله”[2].

– قاعدة تفسير للمعلومات القرآنية: وهي نظام معلوماتي ببليوغرافي يعُنى بحَصر وتتبع الإنتاج العلمي للدراسات القرآنية، وتسعى لرصد الإنتاج العلميّ الخاص بأوعية الدراسات القرآنية من (كتب ومقالات وبحوث مؤتمرات ورسائل جامعية) وتوثيقه، وتزويد المستفيدين بالمعلومات والبيانات والإحصاءات المتعلقة به.

السياسات والخصائص

يتبنى القائمون على الموقع رؤية استراتيجية وهي أن الاهتمام الإسلامي بالفضاء الالكتروني ودوره في دعم العلوم الإسلامية لا يزال ضعيفا، وأن معظم المنصات الإسلامية ينقصها الكثير من التطوير إذ يغلب عليها الطابع الدعوي وضعف التقنية، ومن ثم فإن “الفضاء الإلكتروني وسبل استثماره يجب أن توضع له بوجه عام خطط استراتيجية مرتبة ..وأن تعد له التصورات، وترصد له الميزانيات، وتجلب له الخبرات على كافة المستويات، حتى يمكننا الحديث عن مواقع ومنصات ذات توجه إسلامي”[3]، كما يقول الدكتور عبد الرحمن الشهري.

كان مركز تفسير وامتداداته وليد تخطيط مدروس من القائمين عليه الذين آمنوا بالإمكانيات التي يبيحها الفضاء الالكتروني لتطوير العلوم الإسلامية، ومنذ اللحظة الأولى كان التوجه العام على ضرورة التخصص في مجال معرفي وعدم تجاوزه، وهو مجال الدراسات القرآنية، ولعل هذا يفسر لنا جانبا من جوانب تميز الموقع الذي استطاع أن يخدم الدراسات القرآنية من خلال تطبيقات وبرامج حاسوبية، وأكاديمية لصناعة المفسر وقاعدة بيانات ببليوغرافية ومرصد معرفي، وهي جميعها تخدم الدراسات القرآنية بأكثر من وسيلة وبطرق متباينة، وبعضها يناسب الباحث المتبحر في الدراسات القرآنية، وبعضها يلائم المثقف المسلم القارئ للقرآن الذي يريد معرفة معنى غامض أو قراءة تفسير مبسط للآيات يساعده على التدبر.

وليس التخطيط ومراعاة التخصص وحدهما ما يميز الموقع، وإنما يميزه كذلك أنه لا يتبنى موقفا أيديولوجيا أو موقفا فكريا ينحاز إليه ويعمل على خدمته حيث ظلت الصفة المعرفية غالبة عليه، ولم يشوبه ما شاب غيره من المواقع التي جندت نفسها لخدمة أجندات معينة، فأخفقت في إحراز معشار ما حققه من نجاح أو مصداقية لدى جمهور الدارسين. 

ويضاف لهذا انفتاحه على المنتج المعرفي الغربي حول الدراسات القرآنية، والتزامه في التعاطي معها بالمعايير العلمية الصارمة من عدم القدح فيها لمجرد كونها تضاد الرؤية الإسلامية أو أنها صادرة عن مستشرقين معروف عنهم تحاملهم على الإسلام وعقيدته، وهذا التوجه من المركز ندر أن نجد له مثالا بين المنصات الإسلامية الأخرى ولا نغالي إن قلنا أنه توجه يكاد ينفرد به، ولعله بهذا استطاع أن يقدم للقارئ العربي صورة صادقة لما أنتجه الفكر الغربي حول القرآن من خلال التعريف بأهم الدارسين ومشروعاتهم الفكرية والكتب الصادرة حديثا حول القرآن وما تضمه من أفكار، وقدم في الجهة المقابلة نقدا معرفيا -في عدد من دراساته- للأسس المنهجية التي ينبني عليها هذا الفكر وللامتدادات المعرفية له في الداخل الإسلامي ممثلة في مشروع “القراءة الحداثية للقرآن الكريم”.

وفي الأخير، يمكن القول إن مركز تفسير أضحى في سنوات معدودات واحدا من أهم المنصات القرآنية العالمية، وأن تجربته في خدمة وتطوير الدراسات القرآنية، وفي حسن استخدام وإدارة الموارد الوقفية المحدودة وفي تطوير مفهوم الوقف العلمي تستحق أن تكون موضوعا لدراسة جامعية تستخلص عوامل التميز وتضعها أمام الهيئات والمنصات الإسلامية الأخرى.


[1]قسم الترجمات: الدوافع، الأهداف، الآليات، الإشكاليات

[2] مرصد تفسير للدراسات القرآنية: الواقع والآفاق

[3] موقع تفسير وانطلاقته الجديدة: حوار مع الأستاذ الدكتور عبد الرحمن الشهري (1-2)