منذ قرن نصح شاعر الهند العظيم “محمد إقبال” بأن يُنتزع السيف من قبضة قاطع الطريق، وطالب المسلم أن يقاوم الحكمة الفرعونية التي تقوم على تخريب الروح وإعمار الجسد، وكان يقصد بقاطع الطريق: الممسكون بزمام الحضارة الغربية، والذين يحولون بين الإنسان وبين سعيه إلى ربه من خلال الفصل بين المادة والروح، غير أن هذه المهمة الجليلة لا يقوم بها فارغي الروح، فهي تحتاج إلى القادرين على بعث القيم في حركة الحياة، وبث المعني في هيكل المادة .

 

كان “الفخ” هو أول آلة ابتكرها الإنسان، فإذا بالإنسان المعاصر يقع في “الفخ” ويصير صيدا بعد أن كان صائدا، فمنذ منتصف القرن الماضي، والإنسان المعاصر يعيش أزمة معنى في ظل سيطرة الآلة، فجاء كل إنجاز علمي خطوة في طريق اللايقين والحيرة التي أصبحت سمة عامة.

وأمام تلك الأزمة الروحية، يحتاج هذا الإنسان إلى “حياة روحية تُعاش، لا تُلقن” كما قال الأديب الروسي “تولستوي”، وإذا كان هذا الإنسان منذ ما يقرب من القرنين من الزمان تعود أن يرى الحقائق في ضوء الشموع، أي يرى الوجود والكون في ضوء ما لديه من معارف وعلوم، فإن اللحظة الراهنة تفرض عليه أن يرى هذا الوجود في ضوء الشمس المبهر، وهذه الرؤية تحتاج إلى روح وقلب وبصيرة ولا تحتاج إلى عين أو منظار، وهذا ما يؤكده الدكتور مصطفى مشرفة بأنه إذا كانت الذرة المادية تحتوي على تلك القوة الهائلة فإن الذرة الروحية أعظم قوة وسلطانًا.

وفي إطار البحث عن طاقة الروح ومركزيتها في العمران، يأتي كتاب “الدين والقيم: محورية التزكية الروحية في بناء المجتمع” للدكتور محمد عبد الوهاب حلمي، والصادر عن دار “نيو بوك للنشر والتوزيع” بالقاهرة نهاية عام 2019 في 280 صفحة، موزعة على ستة فصول، تكشف عن الأزمة الروحية والقيمية في ظل الحداثة الغربية ومدارسها المتنوعة، وكيف كان الإنسان من ضحاياها، وتأثير هذا التراجع المخيف للروح والمعنى على مستقبل الإنسان، والدور الذي يمكن للقيم الإسلامية أن تعالج به تلك الأزمة.

أزمة الروح والمعنى

مع تغول التقنية والتكنولوجيا في القرن العشرين وتدخلها العميق في حياة الإنسان المعاصر، أبدى فلاسفة ورجال الدين قلقا متزايدا من سيطرة التقنية على الإنسان، وتحول الإنسان إلى آلة تغيب عنها كل قيمة ومعنى، وتلك لحظة “انحطاط” تبدو مخيفة أمام المهتمين بمستقبل الإنسانية، إذ تظل قيمة الإنسان في قدرته المتفردة على إدراك المعنى، والبحث فيما وراء المادة، وأن تكون قيمه ذات مصدرية متجاوزة.

ومنذ منتصف القرن الماضي لم يعد العلم مصدرا لليقين، فتصاعد القلق الوجودي، لذا ظهرت: “العدمية” و”نهاية التاريخ” و”موت الفلسفة” و”موت الإله” و”صدام الحضارات”، وتلك أزمات يتشارك فيه سكان الكوكب، وأنتج هذا القلقُ سلوكيات وأخلاقيات متشابهة من الإحباط، والاغتراب، والشذوذ، والانتحار.

وأمام تلك الأزمات تساءل الكثير من الفلاسفة عن قدرة تيار “ما بعد الحداثة” على الإجهاز الكامل على القيم، والتحضير لنهاية الإنسان، في ظل شيوع الضياع، وغياب المعايير، وفقدان المرجعية التي تستقى منها القيم محدداتها، بعدما أصبحت التقنية سؤالا فلسفيا، وتحول سؤال الفلسفة من الإنسان إلى الآلة، وصار الاهتمام بالغريزة ودوافعها أكثر حضورا من القيم الروحية، وأصبحت غاية الإنسان هي اللحظة المعيشة، وليست الآخرة المنشودة، فنتج عن ذلك فكر بلا موضوع، وفن بلا غاية، وامتدت مساحة العلمنة إلى مجال الروح، وأصبح الدين أسيرا للتاريخانية.

وفي ظل أزمة الحداثة وما بعدها أخذ سؤال الدين يطرح نفسه لعلاج تكسرات الحداثة، وكمحاولة لإمدادها بالمعنى الذي تفتقده، فالدين نسق قيمي متكامل ينطلق من الإنسان في سلوكه واعتقاده، ويحدد موقف الإنسان من القضايا الكبرى، خاصة تصوراته عن الخير والشر، وبعض الفلاسفة المعاصرين مثل “هابرماس” دعا إلى إدماج قيم الدين في المجتمع الحديث لبناء تصور أفضل عن الذات والعالم، لكنه في المقابل يطالب الدين بالتخلي عن اعتقاده بحقه في احتكار التأويل، وبناء الحياة وفق شروطه، ولعل “هابرماس” في ذلك يحاول أن ينتزع من الدين ميزاته لعلاج العلمانية دون أن يكون للدين الحق في تنظيم الحياة وفق رؤيته، فـ”هبرماس” يؤمن ببعض الدين ولا يرى أهمية في بقيته.

مركزية الدين القيم

النظر إلى تاريخ الإنسان يُظهر حقيقة كبرى، وهي: أن الدين لم يغب عن الإنسان، وأن الإنسان لم يعش في عصر انعدم فيه تأثير الدين في الأخلاق أو حتى في السياسة، ومن ثم فإقصاء الدين بالكلية لم يحدث في تاريخ الإنسانية، لذا كان الفيلسوف “هنري برغسون”[1] يرى أن الدين ضرورة حيوية ملازمة للحياة نفسها، وأن الإنسان ينقاد بعقله إلى التدين.

الإنسان متدين بطبعه، حتى الشك في الدين هو نوع من التدين؛ لأنه في الغالب يعوض إلها بآلهة بأخرى، ويلاحظ أن مجتمعات ما بعد الحداثة تشهد تراجعا لدور الدين وتأثيره، فالمؤسسات لم تعد تستمد قيمها المُوجهة من الدين، وإنما أصبح كل فرد بمثابة المرشد الأخلاقي لذاته، فتيار “ما بعد الحداثة” يتبرم من كل ما هو مقدس ومتجاوز ومتعال ومطلق، فهي عنده أوهام.

وهنا يأتي دور الإسلام الذي تكمن قوته في عدم الفصل بين مُثله الأخلاقية وبين الواقع المعيش، فالمثال والواقع ليسا قوتين متنافرتين لا يمكن التوفيق بينهما، كما أن الرجوع إلى القيم الروحية يحول دون تعطيل حقيقة الإسلام، ويسمح لإرادة العيش المشترك، بوصفها إحدى صفات الأمة المسلمة، أن تتجلى بما يحقق لها الشهود على الناس، فالوعي بالقيمة شرط أساسي في تطوير الأخلاق وتهذيب المجتمع، والبحث في القيم هو بحث في الإنسان نفسه، فالقيمة ليست إلا نوعا من الترجيح عاشه الإنسان.

تاريخ العلاقة بين القيم والتقدم العلمي تاريخ مضطرب، فعندما انتصرت الآلة انحدرت كرامة الإنسان المعاصر، فكان الانتصار فخا ومأزقا للإنسانية وامتحانا في علاقتها بالقيم، فقد تراجعت الروح وتراجعت وعلومها ومعارفها، واختل توازن الإنسان، وهنا تظهر أهمية الإسلام الذي لا تضيق قيمه بالتقدم العلمي ولا يتنافي مع الإبداع والابتكار، فالدين قادر أن يكون قوة تماسك أيديولوحي تستطيع بناء شبكة القيم والأفكار والأهدف والمعايير للجماعة.

الحضارة الراهنة تحتاج إلى فلسفة روحية قيمية تحول الرقي المادي إلى رقي أخلاقي، ولعبت الشريعة الإسلامية دورا استراتيجيا في تنفيذ النسق القيمي للإسلام، فثمرة العبادة هي نفع الناس، وهنا تتجلى أهمية التدين في الحياة العامة، فالدين قوة قيمية في ذاته، وقادر على التعبئة الروحية وبناء سلوكيات الجماعة، والإيمان من أقوى وسائل تهذيب النفس والأخلاق، من خلال التزكية، وجاء الإسلام ليتمم مكام الأخلاق ويعممها، وقلب الإنسان هو محل التزكية، ففيه تتجلى صورة الخالق ونوره، لذا فالإيمان والدين هما مصدر الأخلاق.

وتمتاز منظومة الأخلاق في الإسلام بأن لها ثلاثة أبعاد: نفسي، يتعلق بعلاقة الإنسان التعبدية بربه، واجتماعي يتعلق بعلاقة مع المجتمع، وبُعد ميتافيزيقي يتعلق بالمثُل والمباديء التي يعتنقها الفرد، وقد احتل القلب مكانته في الرؤية التزكوية في الإسلام، فهو موضع الذكر والإيمان وكذلك مكان الشهوة والشبهة، ومحل التجاذب الدائم بين الخير والشر.

ترجع القيم الروحية في الإسلام إلى قيم اعتقادية، في مقدمتها الإيمان بالله واليوم الآخر، والعبادات في جوهرها تكليف لضمير الإنسان، وهو ما يبني في النفس الإنسانية أنها تحت رقابة دائمة من خالقها، فيهب الدين للإنسان كرامة موفورة عندما يوقظ ضميره، ويجعله يحاكم أفعاله وفق معايير بثها الدين في أعماقه، ويمكن فهم الحديث النبوي:”استفت قلبلك، وإن أفتوك وأفتوك”[2] في إطار تلك الرؤية، لذا ربط الإسلام بين الاعتقاد والتعبد برباط عجيب، حتى تقوم العبودية الخالصة، وتتكامل الشريعة مع الحقيقة والاعتقاد لذا كانت “كل شريعة لا حقيقة لها باطلة، وكل حقيقة لا شريعة معها باطلة” فالإسلام ليس فلسفة عقلية ولكنه نهج حياة.

القيم القوية هي المندمجة في السلوك، فالكون محراب المؤمن إذا أحسن النية وأخلصها، والعبادة طريق للتزكية ، وسبيل للتضامن الاجتماعي، ومادام المؤمن يحمل الإيمان يجب أن يتجلى في سلوكه وتعامله، ومن ثم فالقيم الروحية تُلهم العقل وتهديه، وهذا ما يجسده محمد إقبال بقوله: “الشرع ينهض من أعماق الحياة، وإذا أردتَ أن ترى أعماق الدِّين واضحة، فلا تنظر إليه إلاَّ مِن أعماق الضَّمير، وإن لم تَفْعل، فدينُك هو الجَبْر، ومثل هذا الدِّين لا يرضاه الله”

والحقيقة أن الآلة وثقافتها أثرت في قيم الحياة ومناشطها، والمكان الأبرز لتجلي أزمة القيم في الحياة المعاصرة هو الأسرة، التي ظلت أحد أهم مؤسسات التنشئة القيمية التي عرفتها الإنسانية، وفي اللحظة الراهنة تفقد دورها ووظيفتها، يتفق العلماء أنه لا سبيل عن علاج مثالب الحضارة الراهنة إلا بفلسفة روحية وقيمية.


[1] فيسلوف فرنسي توفي عام 1941 وحصل على جائزة نوبل عام 1927، حاول أن ينقذ القيم التي اطاحها المذهب المادي، ويؤكد ايمانا لا يتزعزع بالروح.

[2] رواه الإمام أحمد في مسنده