يواجه الإنسان أحيانا بعض المواقف الحرجة فيتمنى أن لو كان بإمكانه أن يفعل شيئا ينفع به غيره أو يغير من حاله. وقد لا يكون بوسعه إلا كلمة يعبر بها عما واجهه أو ما تمنّاه. ولكن بعضنا يستقلّ من نفسه أن يواجه موقفا إنسانيا صعبا بمجرد كلمة يقولها تنفيساعن نفسه أو حسرة على إحساسه بالعجز، لكن الذي يغفل عنه الكثيرون أن الكلمة النابعة من قلب صادق وحريص على الخير لا تضيع أبدا.

مازلت أذكر بكثير من الحيرة والإعجاب قصّة كلمة ألقاها إليّ شاب لم أتعرف عليه من قبل، ولا أكاد أتبين الآن شيئا من ملامحه.. بل إنني لم أره ولم أسمع عنه أي خبر منذ لقيته أول مرة عشية يوم من أيام عام 1989 ، أثناء أحد العروض التي دأبت الجمعية الثقافية الإسلامية في موريتانيا على تقديمها للشباب عن طريق نادي مصعب بن عمير التابع لها.

كنت أشرف على هذه العروض من خلال النادي الذي أرأسه، وكان يتعاون معي على ذلك نخبة مباركة من الشباب الطامحين إلى تحقيق غد أفضل لأمة الإسلام عن طريق نشر الوعي الأصيل والثقافة النظيفة، وتدعيم قيم الطهر والصلاح والخير والفاعلية في الحياة.

كانت العروض أحيانا محاضرات مباشرة لبعض الأساتذة من الرعيل الأول من الدعاة الموريتانيين، وأحيانا تكون العروض محاضرات مسجلة بالصورة والصوت لمشاهير الدعاة أمثال الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- والشيخ الدكتور يوسف القرضاوي ود.حسن الترابي والأستاذ محمد قطب أوالشيخ الشعراوي والزنداني وغيرهم..

كان من أكثر تلك العروض شعبية وجاذبية محاضرات الشيخ الزنداني عن الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، و محاضرات الدكتور حسن الترابي فى الفكر السياسي والتجديد الديني، وكانت خطبه الهادرة في مهرجانات الجبهة الإسلامية تستهوي جموع الشباب فيتداعون إليها من كل مقاطعات المدينة وأحيائها. كما كانوا يتوافدون بلهفة على دروس الشيخ عبد الله عزّام – رحمه الله تعالى- عن الجهاد الأفغاني، وما أكرم الله به المجاهدين من انتصارت على العدو الشيوعي الغازي، وما يمدّهم به من خوارق وكرامات ربانية، أيقظت في نفوس شباب الأمة الرغبة في الجهاد والشوق إلى الشهادة في سبيل الله، فخرجوا أفواجا يطلبونها في مظانّها بدعم وتسهيل من بعض الدول الخليجية، قبل أن يصبح الجهاد جريمة موبقة والسابقة فيه شبهة تورد صاحبها غياهب السجون إذا لم تؤدّ به إلى الهلاك قتلا أو تِيها وتشرّدا..

كان الشباب يتسابقون إلى حضور عرض الخميس، فالقاعة لا تكاد تتسع إلا للجموع الأولى من الحاضرين ، ولا يبقى للآخرين من خيار غير المزاحمة على باب القاعة، رغم ما يجلبه ذلك في أحيان كثيرة من حرارة الجو وسوء التهوية، إذ لم يكن بالقاعة من مراوح فضلا عن مكيِّفات.. ولكن الشباب كانوا يتحملون في إصرار حتى ينتهي العرض، وكأنهم يحتسبون ما يلاقونه من ذلك الضنك والشدة جهادا في سبيل العلم والدعوة، يهون تحمل المعاناة فيه قياسا بتضحيات أولئك المجاهدين فى سوح الوغى وهم فى نحور أعداء الأمة والدين، أوما تحمّله أولئك الدعاة المحاضرون من معاناة في سجون الظلمة، أومقارعة كتائب الملحدين والعلمانيين من نابتة الاستلاب الفكري والقهر الحضاري، وكلاء المشروع التغريبي فى ديار المسلمين.

ذات عشية -وكنّا فى نهاية أحد تلك العروض- تقدم إليّ شاب ثلاثينيٌّ أسمر، يبدو عليه أثر السفر ولم تكن ملامحه معهودة لديّ كبقية الشباب الذين يتعاهدون تلك العروض، ثم قال فى أدب “قدمتُ من قرية نائية فى طور التأسيس حيث تجمّعت جموع من الرُّعاة والفلاّحين، ألجأتهم ظروف الحياة إلى النزوح من مواطنهم الأصلية، بعد أن فنيّ الزرع وجفّ الضرع، وهم بحاجة إلى إغاثة عاجلة من التعليم والتوجيه، إذ تغلب عليهم الأمّيّة والجهل بأوليّات الدين”.

شكرت الشاب الخيّر على مبادرته وأشدت به بمسمع الحاضرين ووعدته خيرا، ثم انصرف إلى حال سبيله وتركني أضرب أخماسا في أسداس.. كنت أقول في نفسي ماذا عسانا نعمل من أجل هذه القرية أو غيرها من القرى والتجمعات المشابهة؟ والحال أن جمعيتنا وإن كانت عريضة الآمال والطموحات، إلا أنها محدودة الوسائل والإمكانات. فهي لا تكاد تؤمّن لوازم الرحلات الدعوية الموسمية والمخيمات التربوية التي تنتظرها أفواج الشباب بفارغ الصبر كلَّ عطلة صيف.

مرت الأيام ولم أعد أر ذلك الشاب ولا أسمع عنه ولكن كلماته الملهوفة ظلت تؤرِّقنى، فأتذكر تلك القرية كلما جرى النقاش بين اعضاء الجمعية حول أولويات البرامج الدعويةٍ والمشاريع الخيرية. ثم قدّر الله أن أتولّى بعد ذلك بأكثر من سنة إدارة منظمة لجنة مسلمى إفريقيا الكويتية الخيرية، فكان من أول ما قمت به أن زرت تلك القرية ورتبت فيها داعية متميزا، كان يمارس الدعوة رسالة لاوظيفة.. بدأ بإصلاح ذات البين وتأليف القلوب والتعليم المتدرّج والتوجيه الحكيم. أراده أعيان القرية أن يتولّى إمامة مسجدهم منذ أيامه الأولى، لما عرفوا من علمه ولاحظوا من تقواه، فسوّف بهم، احتراما لمشاعر إمامهم الأول حتى لايثير حساسيته، رغم أن كثيرا من جماعة ذلك الإمام يصلى معه على مضض لعدم وجود البديل، ولايطمئن لكفاءته العلمية. لكن الداعية الحكيم آثر أن يصحح للإمام المسنّ أخطاءه برفق لايشعر معه بالحرج بين أتباعه وذويه.. ثم اتّبع مع بقية الساكنة منهج الربّانيين، فأخذ يعلمهم صغار العلم قبل كباره، ويرغّبهم فى الإقبال على حضور مجالس الخير، والاجتهاد فى العمل النافع والكسب الحلال. وكان يشجع المقبلين منهم على الخير من أبواب العمل الذى ينشطون له، ولا يُعنتهم بما لا يجد منهم عليه إقبالا، بل يغضّ الطرف أحيانا – عن بقايا مما كانوا فيه من جهل وغفلة، مؤثرا سبيل التدرج والرفق. فكأنه يستحضر ما أثر عن أمّنا عائشة الصدّيقة رضي الله عنها وهي تصف المنهج الرباني فى تشريع الأحكام إذ جاءت منجّمة متراخية، والمنهج النبوي فى الدعوة إليها شيئا فشيئا، بدءا بالأسس والأصول قبل الجزئيات والفروع. ثم تعقّبُ – رضي الله عنها- بفقه بصير “لوأن الناس كلفوا بالأحكام دفعة لردّوها دفعة”. وداعيتنا فى أسلوبه هذا يذكّرنى بما وصف به الشيخ محمد الغزالى – رحمه الله- إحدى تجاربه مع بعض المدعوّين- وهو يردّ على سذاجة بعض المتعجّلين- حيث يرى “أن الحقائق التى كان يأخذهم بها ستدخل إلى نفوسهم فتخرج منها الأهواء كما يدخل الماء القنّينة الفارغة ليطرد الهواء فيحلَّ محلّه”.

وبعد مدة من العمل الدؤوب والدعوة على بصيرة، وبقدر كبير من الإخلاص والتجرّد، نمت المودة والثقة بين الداعية الحكيم وإمام القرية، فكان يعتمد عليه فى الرد على أسئلة المستفتين، ويعهد إليه بالنيابة عنه فى الإمامة فى أوقات غيابه أو انشغاله. أما حين تطور المصلّى إلى جامع – مع تطور وعي أهل القرية وتزايد عددهم – فلم يكن للإمام بدٌّ من أن يستعين بكفاءة الداعية وقدراته الخطابية فى الوعظ والإرشاد والتبليغ. لاسيما والإمام يعلم أن جمهورالمصلين يتوقون إلى سماع خطب الداعية المفوّه الذى يربط لهم واقعهم بالدين ويربط الدين بالحياة. وهم الذىن طالما أوهمهم جهلة الوعّاظ وأشباه المتعلمين أن الدين سلوك فردي يتعلق بالموت والقبر وما وراء ذلك من أحوال الآخرة وأهوالها، بعيدا عن مجريات الحياة وشؤونها. ثم لم يلبث الإمام أن تنازل له عمليا عن كل ما يتعلق بإدارة شؤون المسجد والإمامة والتوجيه والإرشاد فيه، واكتفى بمكانته الاعتبارية و مزاياه التى ما كان الداعية الصادق لينافسه فيها، بل كان همه الشاغل أن يتوسل بكسب ثقته ونيل رضاه إلى إنقاذ الغارقين فى ظلام الجهل وظلمات الغفلة والمعصية. ثم تطورت حال القرية فازدهرت محظرتها، وأقبل النساء والكبار على مجالس العلم والخير، وطفق الشباب يتطوعون بما فاض من أوقاتهم بعد طلب العلم لتنظيف قريتهم ومساعدة المزارعين وأهل الحرف فيها، وانفضّت تلك الجموع التى ماكانت تأتلف إلا على غيبة أونميمة أو شحناء حين شغل الناس بالأعمال النافعة دون الحاجة إلى كثير من الجدل والخصام. وتواردت على القرية معونات الخيرين تثمينا لجهود أهلها وتزكية لتجربتهم. وأصبحت مساجدها معمورة بالصلاة وقراءة القرءان ومجاس العلم، وأسواقها عامرة بما يحتاجه أهلها وجيرانها، ومزرعتها تعجّ بالحركة والإنتاج فى جو من الألفة والانسجام. أما داعيتها فقد كان مثار أحاديث الجموع وإعجابهم. فانظر بربك أي أثر تركته تلك الكلمة الصادقة من ذلك الشاب الغيور الذى لم يكن يملك إلا كلمة خير قالها يوما ثم اختفى، ولكنه حين مرّ ترك الأثر.

مرت الأيام ولم أعد أر ذلك الشاب ولا أسمع عنه، ولكن كلماته الملهوفة ظلت تؤرِّقني، فأتذكر تلك القرية كلما جرى النقاش بين أعضاء الجمعية حول أولويات البرامج الدعويةٍ والمشاريع الخيرية.

داعيتنا في أسلوبه هذا يذكّرني بما وصف به الشيخ محمد الغزالى – رحمه الله- إحدى تجاربه مع بعض المدعوّين- وهو يردّ على سذاجة بعض المتعجّلين- حيث يرى “أن الحقائق التي كان يأخذهم بها ستدخل إلى نفوسهم فتخرج منها الأهواء كما يدخل الماء القنّينة الفارغة ليطرد الهواء فيحلَّ محلّه”.

ثم قدّر الله أن أتولّى بعد ذلك بأكثر من سنة إدارة منظمة لجنة مسلمي إفريقيا الكويتية الخيرية، فكان من أول ما قمت به أن زرت تلك القرية ورتبت فيها داعية متميزا، كان يمارس الدعوة رسالة لا وظيفة.. بدأ بإصلاح ذات البين وتأليف القلوب والتعليم المتدرّج والتوجيه الحكيم. أراده أعيان القرية أن يتولّى إمامة مسجدهم منذ أيامه الأولى، لما عرفوا من علمه ولاحظوا من تقواه، فسوّف بهم، احتراما لمشاعر إمامهم الأول حتى لا يثير حساسيته، رغم أن كثيرا من جماعة ذلك الإمام يصلي معه على مضض لعدم وجود البديل، ولا يطمئن لكفاءته العلمية. لكن الداعية الحكيم آثر أن يصحح للإمام المسنّ أخطاءه برفق حتى لا يشعره بالحرج بين أتباعه وذويه.. ثم اتّبع مع بقية الساكنة منهج الربّانيين، فأخذ يعلمهم صغار العلم قبل كباره، ويرغّبهم في الإقبال على حضور مجالس الخير، والاجتهاد في العمل النافع والكسب الحلال. وكان يشجع المقبلين منهم على الخير من أبواب العمل الذي ينشطون له، ولا يُعنتهم بما لا يجد منهم عليه إقبالا، بل يغضّ الطرف أحيانا عن بقايا مما كانوا فيه من جهل وغفلة، مؤثرا سبيل التدرج والرفق. فكأنه يستحضر ما أثر عن أمّنا عائشة الصدّيقة رضي الله عنها وهي تصف المنهج الرباني فى تشريع الأحكام إذ جاءت منجّمة متراخية، والمنهج النبوي في الدعوة إليها شيئا فشيئا، بدءا بالأسس والأصول قبل الجزئيات والفروع، ثم تعقّبُ – رضي الله عنها- بفقه بصير “لو أن الناس كُلفوا بالأحكام دفعة لردّوها دفعة”.

وداعيتنا في أسلوبه هذا يذكّرني بما وصف به الشيخ محمد الغزالى – رحمه الله- إحدى تجاربه مع بعض المدعوّين- وهو يردّ على سذاجة بعض المتعجّلين- حيث يرى “أن الحقائق التي كان يأخذهم بها ستدخل إلى نفوسهم فتخرج منها الأهواء كما يدخل الماء القنّينة الفارغة ليطرد الهواء فيحلَّ محلّه”.

وبعد مدة من العمل الدؤوب والدعوة على بصيرة، وبقدر كبير من الإخلاص والتجرّد، نمت المودة والثقة بين الداعية الحكيم وإمام القرية، فكان يعتمد عليه في الرد على أسئلة المستفتين، ويعهد إليه بالنيابة عنه في الإمامة في أوقات غيابه أو انشغاله. وحين تطور المصلّى إلى جامع – مع تطور وعي أهل القرية وتزايد عددهم – فلم يكن للإمام بدٌّ من أن يستعين بكفاءة الداعية وقدراته الخطابية في الوعظ والإرشاد والتبليغ، لاسيما والإمام يعلم أن جمهور المصلين يتوقون إلى سماع خطب الداعية المفوّه الذي يربط لهم واقعهم بالدين ويربط الدين بالحياة. وهم الذين طالما أوهمهم جهلة الوعّاظ وأشباه المتعلمين أن الدين سلوك فردي يتعلق بالموت والقبر وما وراء ذلك من أحوال الآخرة وأهوالها، بعيدا عن مجريات الحياة وشؤونها. ثم لم يلبث الإمام أن تنازل له عمليا عن كل ما يتعلق بإدارة شؤون المسجد والإمامة والتوجيه والإرشاد فيه، واكتفى بمكانته الاعتبارية و مزاياه التي ما كان الداعية الصادق لينافسه فيها، بل كان همه الشاغل أن يتوسل بكسب ثقته ونيل رضاه إلى إنقاذ الغارقين في ظلام الجهل وظلمات الغفلة والمعصية.

ثم تطورت حال القرية فازدهرت محظرتها (=المحظرة هي المدرسة الدينية في موريتانيا)، وأقبل النساء والكبار على مجالس العلم والخير، وطفق الشباب يتطوعون بما فاض من أوقاتهم بعد طلب العلم لتنظيف قريتهم ومساعدة المزارعين وأهل الحرف فيها، وانفضّت تلك الجموع التي ما كانت تأتلف إلا على غيبة أونميمة أو شحناء حين شغل الناس بالأعمال النافعة دون الحاجة إلى كثير من الجدل والخصام.

وتواردت على القرية معونات الخيرين تثمينا لجهود أهلها وتزكية لتجربتهم. وأصبحت مساجدها معمورة بالصلاة وقراءة القرآن ومجاس العلم، وأسواقها عامرة بما يحتاجه أهلها وجيرانها، ومزرعتها تعجّ بالحركة والإنتاج في جو من الألفة والانسجام. أما داعيتها فقد كان مثار أحاديث الجموع وإعجابهم.

فانظر بربك أي أثر تركته تلك الكلمة الصادقة من ذلك الشاب الغيور الذي لم يكن يملك إلا كلمة خير قالها يوما ثم اختفى، ولكنه حين مرّ ترك الأثر.