في الحوار الذي يدور بين الرؤساء والأتباع، بين المستكبرين والمستضعفين، يقول الله عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } [سبأ: 31]

يتذكر المستضعفون سبب صرفهم عن الإيمان، سبب تقليدهم للمستكبرين، وبعدهم عن الحق والإيمان، فلا يجدون سببا صَرَفَهم إلا إغواءُ السادة المتكبرين لهم، وتزيينُ الباطل لهم، وترغيبُهم فيه، وترهيبُهم من اتباع الحق والإيمان،  فيخلصون إلى أنه لولا هذا الإغواء من السادة لنفذت أشعة الإيمان إلى قلوبهم، واستولى الحق على أقطار أنفسهم “لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ” فقد كنتم العائق لنا عن الإيمان!

لكن السادة الذين طالما تكبروا وتجبروا، والذين لم يسمحوا يوما للمستضعفين بالكلام في حضرتهم، ولا مناقشتهم فيما يبدون من أوامر، إلا في خلجات النفوس، وربما على جدران الحمامات المغلقة.

هؤلاء السادة  يعلنون الحقيقة في وجوههم: لستم مستضعفين، بل أنتم مجرمون، “أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ؟ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ” السبب الذي منعكم من اتباع الهدى أنكم مجرمون، فلا تدَّعوا البراءة، ولا تتمسحوا بالطهارة، فلستم كذلك!

لكن كيف كانوا مجرمين!

كانوا مجرمين؛ لأنهم كانوا يملكون أن يقولوا للمستكبرين : لا، لكنهم لم يفعلوا.

كانوا مجرمين؛ لأنه كان بإمكانهم أن ينضموا إلى قوافل الصالحين، لكنهم لم يفعلوا.

كانوا مجرمين؛ لأنهم آثروا الراحة على التعب، والسلامة على الابتلاء.

إن المستكبرين لم يفعلوا بهم سوى أن زينوا لهم الحياة الدنيا، فأقبلوا على زينتها.

وتزيينُ الحياةِ الدنيا لا يقهر الإنسانَ، ولا يُجبره على الانخراط فيها، كما أن أحدا لم يَسلَم من تزيينِ الحياة الدنيا، قال تعالى : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } [آل عمران: 14] فالتزيين واقع للناس، كلِّ الناس.

 وقال تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]

فكان الناس إزاء هذا التزيين فريقين :

فريقا غرَّتهم زينتُها، وفتنتهم بهجتُها، فانصرفت همتهم إلى الاستماع بلذاتها، وانحصرت أفكارهم في استنباط الوسائل لشهواتها، ومسابقة طلاب المال والجاه عند أربابها، ومزاحمة الطارقين لأبوابها….والحق ينعى عليهم إسرافهم في أمرهم، ويطالبهم بحقوق عليهم لغيرهم. والتطلع إلى حياة أخرى يزعزع من سكونهم إلى لهوهم، ويغض شيئا من تعاليهم في زهوهم، بل يكدر عليهم بعض صفوهم، ويقف بهم دون شأوهم.[1]

وفريقا نظروا إلى زينة الدنيا كما أمر الله، وهو من وجهين، أحدهما: ما فيها من الآيات الدالة على قدرته تعالى وعلمه وحكمته ورحمته بعباده. وثانيهما: كونها نعمة منه تعالى ينتفع بها، ويشكر الله تعالى عليها، ويتبع شرعه فيها بالقصد واجتناب السرف والخيلاء، وتذكر الدعاء بحسنة الدنيا وحسنة الآخرة وهو قريب.

إجرام لا استضعاف

كانوا مجرمين؛ لأن حب الدنيا تغلغل إلى قلوبهم، بحيث صار لا يمنعهم عن طلبها مانعٌ، فلم يبالوا أن يفعلوا أي شيء في سبيل تحصيلها، لا يمتنعون أن يكونوا عونا للمستكبرين وأداة لهم في التنكيل بعامة الناس ليصلوا إلى دنياهم التي استطونت نفوسَهم.

كانوا مجرمين؛ لأنهم يعلَمون، وهم يبطشون، ويعذِبون الناس أنهم يرتكبون منكرا بمعايير العقل والدين.

وإلا فما الذي يحمل القاضي على أن يحكم على البريء بالعقوبة إلا خوفُه على جاهه أن يزول، وراتبه أن يتوقف، وحياته الهانئة أن تتكدَّر!

ما الذي يحمل العسكري البائس على أن يكون اليد التي يبطش بها الحاكم الظالم إلا خوفه على دريهمات، أو وظيفة أن تفوت!

ما الذي يحمل الإعلامي على أن يكون أداة تضليل وتطبيل إلا طلبه للدنيا.

ما الذي يمنع العالم من التزوير والتضليل في الدين إلا أنه اشترى الحياة الدنيا؟ أليس هذا ما قاله الله تعالى : {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } [آل عمران: 187]

اختيار لا اضطرار

فهم مجرمون؛ لأنهم اختاروا اختيارا، ولم يُضطروا اضطرارا، اختاروا رغَبا في مطمع أو رهبَا عن مغرم!

قال القاضي أبو محمد: في خطبة إبليس كما يحكيها الله عنه في كتابه : {قَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ } [إبراهيم: 22]، ” أي ما اضطررتُكم ولا خوفتُكم بقوة مني، بل عرضتُ عليكم شيئا، فأتى رأيُكم عليه.”

أو كما قال الشيخ الشعراوي في تفسير الآية ذاتها : ” كل ما كان لي عندكم أنِّي حرَّكْتُ فيكم نوازع أنفسكم، وتحرَّكت نوازع أنفسكم من بعد ذلك لِتُقبِلوا على المعصية.”[2]

التضحية بالغير إنقاذا للنفس

ولا يخلِّصهم من الوصف بالإجرام التضحيةُ بغيرهم إنقاذا لأنفسهم، قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النحل: 106]:  ” أجمع العلماء على أن من أكره على قتل غيره أنه لا يجوز له الإقدام على قتله ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره، ويصبر على البلاء الذي نزل به، ولا يحل له أن يفدي نفسه بغيره، ويسأل الله العافية في الدنيا والآخرة”[3].

وفي الظلال: “والمستضعفون عليهم وزرهم، فهم مسؤولون عن اتباعهم للطغاة، لا يعفيهم أنهم كانوا مستضعفين. لقد كرمهم الله بالإدراك والحرية، فعطلوا الإدراك وباعوا الحرية ورضوا لأنفسهم أن يكونوا ذيولا وقبلوا لأنفسهم أن يكونوا مستذلين. فاستحقوا العذاب جميعا وأصابهم الكمد والحسرة وهم يرون العذاب حاضرا لهم مهيأ.”

وكما جاء في تفسير مجمع البحوث : “لسنا نحن الذين حُلْنا بينكم وبين الإِيمان وصددناكم عنه، ومنعناكم منه بعد إذ صممتم على الدخول فيه وصحت نياتكم في اختياره، بل أنتم منعتم أنفسكم حظها، وآثرتم الضلال على الهدى، وأطعتم آمِرَ الهوى دون آمر الهُدى، فكنتم مجرمين مشركين مصرين على الكفر باختياركم لا لقولنا وتسويلنا، ونحن ما فعلنا بكم أكثرُ من أنَّا دعوناكم فاتبعتمونا من غير دليل.”[4]


[1] – تفسير المنار (2/ 217)

[2] – تفسير الشعراوي (12/ 7487)

[3] – تفسير القرطبي (10/ 183)

[4] – التفسير الوسيط – مجمع البحوث (8/ 275)