تابعت، مثل غيري من المتابعين العرب والمسلمين، بشغف كبير المسلسل التركي التاريخي “المؤسس عثمان”، وهو عمل درامي يحكي قصة مؤسس الدولة العثمانية عثمان بن أرطغرل، وقد حرصت أشد الحرص بأن أكمل الأجزاء الثلاث مكتملة. وهناك العديد من الأسباب التي جعلت حرصي كبير على متابعة كل هذا الكم من الحلقات الذي يناهز المائة حلقة.

من بين هذه الأسباب مايلي:

  • فكره المسلسل التاريخية الواقعية، إذ أنها تجسد التاريخ التركي العثماني العظيم ونشوء دولتهم المستقبلية.
  • رغبتي العميقة في معرفة الحياة التأسيسية الأولية لنشوء الدولة العثمانية.
  • معرفة الشخصية التركية البدائية.

بداية أود أن أعترف أن المخرج والممثلين تمكنوا من جعلي حبيس المنزل لعدة أيام لملاحقة الحلقات علي التوالي بلا ملل ولا نصب،  حتي أن ساعات نومي أصبحت مرهونة بها. وقعت بلا نهوض في فخاخ تشويق المخرج.

لقد شاهدت من قبل المسلسل التركي “قيامة أرطغرل” وهو والد المؤسس عثمان الأسمر أصغر إخوته من حيث ترتيب المسلسل، وكما يقال في المثل (الإبن سر أبيه) فكان المكمل لما ابتداه أباه وتمت تسميته بإسم عثمان تحققا لرؤية والديه في المنام تبشرهم بقدوم مولود ذكر يستطيع أن يغير واقعهم .

ما لفت إنتباهي في مسلسل المؤسس عثمان الشجاعة والقوة الجسدية للشخصية التركية حينها علاوة على الإيمان المُشبع بالتوكل، حيث بنيت جل حياتهم علي العقائد الإسلامية فضلا على المهارة الخارقة في إستخدام أدوات الحرب، بيد أنهم كانوا قليلي العدد بحكم الطابع السكاني القبلي كان النصر حليفهم في جُل معاركهم مستوثقين بقول الله تعالي “كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ” (البقرة-249) صدق الله العظيم.

كان الإيمان هاديهم ومرشدهم في حياتهم العامة، يؤمنون بالفتوحات والغزو ينطلقون من العُرف التركي “أينما وجد غزو يستوجب تواجد التركي” مما جعل محاربين من غير قبيلة (قايي) يلتحقون بالمؤسس عثمان.

انتخابات شفافة ونزيهة لاختيار “سيد” القبيلة

عند إختيار “سيد” القبيلة يعقد سادة الأتراك مجلسا في صورة برلمان لممثلي القبائل، ويفتحون الباب للترشح “لانتخابات” شفافة ونزيهة، فيتبارى المرشحون في عرض برنامجهم الإنتخابي (بلغة اليوم) ثم يبتدأ الإقتراع والتصويت للمتنافسين، وينتصر من نال عدد أصوات أكثر عن طريق التصويت برفع الأيدي.

المؤسس عثمان ومحاربيه

عملية انتخابية غاية في التنظيم والدقة والنزاهة والشفافية، لا يمكن إلا أن ننبهر بها في يومنا هذا، لأنها – ببساطة – تنطوي تحتها اشكالياتنا السياسية مع أصل تواجدها في أرثنا الأسلامي .

بعد نهاية العملية الانتخابية، يكون الإمتثال التام والمطلق لمن تم إختياره رئيسا للقبيلة، ويقيد القائد بالمجلس في حكمه حيث لا يمكن أن ينفرد قائد القبيلة بالقرار (الجماعة مصدر الحكم)، فالشوري مبدأ ثابت في جميع أمور وقضايا القبيلة من شؤون السلم والحرب إلى مسائل الاقتصاد والتجارة، يمتثلون جميعهم لمبدأ التشاور في الإسلام في كل شؤونهم ، ممتثلين لقوله تعالى في هذا الشأن “وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ“(آل عمران – 159) صدق الله العظيم.

الإيمان بالله أولا وبالتقاليد ثانيا

وتبين من خلال حلقات المسلسل، أن النصر حالفهم في كثير من المعارك، رغم كثرة أعدائهم، وذلك راجع لإيمانهم الكبير بالله، وتفوق قدراتهم وحسن تنظيمهم من الصليبين والمغول. ففي كل معركة أو حرب كانت انفسهم تستشعر قوله تعالي “يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ” (محمد – 7). صدق الله العظيم.

كلماتهم اليومية الروتينية مُشبعة بالإيمان بالله وبالتقاليد، يقاتلون من أجل نصر الله في الأرض ومن أجل كلمة الحق وإرساء العدل ولتثبيت إرثهم. ورغم الوسائل البدائية التي كانوا يمتلكونها في الحرب والعيش والحياة العامة، إلا أنهم كانو يتبعون من أرتضوه قائدا لهم، يؤمنون بما يؤمن به مهما كانت الظروف.

حظور قوي للمرأة المسلمة

وجود المرأة ملحوظ ومحسوس في كل أطوار المسلسل منذ حلقاته الأولى، ويبدو فعالا أيضا بدءا من رئاسة القبيلة ومرورا بالقتال كمحاربين تجدن إستخدام السيف والدرع بقدر براعة الرجال. وتحظي المرأة في هذا العمل الدرامي الكبير بوافر من التقدير والاحترام، ويظهر ذلك في تماسكهم العائلي الرهيب غير القابل للتشتت، فهم يعرفون أن واجبهم نحو عائلتهم لا يقل أهمية عن واجبهم نحو دينهم ومجتمعهم قولا وعملا.

المؤسس عثمان وزوجتيه في المسلسل

من خلال هذا التكافل والترابط الأسري الضارب في جذور التاريخ، استطاع الأتتراك محاربة ملوك وسلاطين وحكاما، وانتزعوا منهم أراض وقلاع، ففتحوا العديد من المدن لإقامة دولتهم المنشودة.

فتح القلوب قبل فتح القلاع

كان مبدأ الفتح الإسلامي يعكس أخلاقهم الإسلامية نظريا وعمليا، فكانوا يصرون على أن تظهر سلوكاتهم هذه في القلاع والمدن التي يتم فتحها، من خلال معاملة أهلها وسكانها من غير المسلمين، الذين أصروا على أن يظهروا لهم في كل مرة أو في كل غزوة، قيمة وسماحة أخلاق المسلمين سواء بالعفو أو بالصلح أو بتطبيق مبدأ العدالة والمساواة، خاصة بين الأتراك الغازين وسكان تلك القلاع، الذين اكتشفوا أخلاق المسلمين، فكان ذلك أدعى للسعي إلى الدخول في هذا الدين الذي يحمل كل هذه المكارم الراقية، خاصة وأن أفئدتهم كانت عطشى للعدل والمساواة والتسامح، بسبب ما كانوا يعانون من الظلم والاستبداء بين أهلهم وولاة أمورهم.

كما تبين أن اهتمام وتمسك الأتراك في ذلك الوقت بالقرآن الكريم والسنة النبوية وأخلاق الإسلام، أدي لاقتناع بعض من جنود المغول والصليبيين لمناصرتهم والانضمام لركبهم وخدمتهم في تحقيق أهدافهم.

أين نحن من ذاك الزمن؟

لقد بعدنا اليوم عن قيمنا الإسلامية في الشورى والأخلاق المحمدية، فبعدت قلوبنا، ووهنت أجسادنا، فتفككت دولنا، وتفرق عضدنا، ولم يصبح المسلم كالجسد الواحد، حتي ذبلت مقاصدنا وتضاءلت أهدافنا، لأننا تناسينا قيمنا وأخلاقنا، ورحنا نبحث عن البدائل الدنيوية الأخري، التي لا تمت إلى ثقافتنا الإسلامية بأي صلة. لقد بدلنا قيمنا فتبدل حالنا، كما قال سيدنا عمر رضي الله عنه “نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما أبتغينا العزة في غيره أذلّنا الله”.

وعلى العموم، فإن القيمة الفنية للمسلسل على نسق عال من مفهوم التقيد بالتقاليد والرجوع إلى الأصول الإسلامية في السلم والحرب وفي الحياة العامة. فالمسلسل تاريخي، لكنه يدعو ضمنيا إلى إعادة النظر فيما نحن فيه من انسلاخ أخلاقي وضياع عقدي، وبعد تام عن الأخلاق الإسلامية، والتقاليد الحقيقية وليس المزيفة. فهو دعوة ناعمة للإلتفات لما ينعكس يمكن أن ينعكس عن معاملاتنا وأخلاقنا وأعمالنا.

لقد أحسن الأتراك في تقديم تاريخهم ونشر فلسفتهم الإسلامية باستخدام الوسائل الناعمة، التي يبدو أن تأثيرها سيكون وقع كبير على المجتمعات المسلمة وحتى غير المسلمة، من خلال أعمال درامية مميزة، أدعو كل من تتوفر له أسباب المشاهدة أن يتأمل في هذا العمل الفني التاريخي الإسلامي وغيره من الأعمال التي تليق بحضارتنا وثقافتنا الإسلامية.