قد ركّب الله -تعالى- في الإنسان الغرائز والشهوات، وجعل العقل حاكمًا عليها. فمن ألجم غرائزه وشهواته بلجام العقل سلِم في الدنيا، ونجا في الآخرة.

ومن أتبع نفسه هواها، وغلبته شهوته، فقد أرهق نفسه في الدنيا، وأهلكها في الآخرة. وكما أن للأجساد مصارع، فللعقول مصارع كذلك.

ومصارع الأجساد مفارقة الروح لها. ومصارع العقول تحكّم الشهوات فيها.

قال الوزير ابن هبيرة (499 – 560هـ): “احذروا مصارع العقول عند التهاب الشهوات”([1]).

وإذا كانت الشبهات متعلقة بما يعرض للعقول من التباس في الأفكار والمعتقدات، فتعتقد أن الباطل حقٌّ، وأنها على أساس متين، وتحسب أنها ممن يحسنون صنعًا، فإن الشهوات متعلقة بالنفوس والأهواء ويقارفها صاحبها عن عمد وقصد سواء تقلل منها أو استكثر.

وقد قيل: “حظ العبد من (اسم الله الحفيظ) أن يحفظ سرّه عن اتباع الشبهات والبدع، وجوارحه عن انقياد الشهوات والغضب، ويختار قصد الأمور، ويحفظ نفسَه عن الميل إلى طرفي الإفراط والتفريط”([2]).

وكلمة الشهوات وردت في القرآن في مواضع ثلاثة:

الموضع الأول: في سورة آل عمران حينما قال -تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ﴾ [آل عمران: 14].

فهذا التحسين والتحبيب من الله على وجه الابتلاء والاختبار، فمن أخذ منها بقدر ما أبيح له ولم يتعد ويجعلها همه وشغله الشاغل نال السعادة في الآخرة، وتمتع بها في الحياة الدنيا.

فإن طغى وتجاوز الحد أصبحت هذه الشهوات مقابح، قال الفضيل بن عياض: “من استحوذت عليه الشهوات انقطعت عنه مواد التوفيق”([3]).

فالإسلام لم يدع لقتل الشهوات؛ إذ إن بها دوام الحياة واستمرارها، ولكن دعا إلى أن تكون تحت السيطرة.

الموضع الثاني: في سورة النساء وذلك في قوله -تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا﴾ [النساء: 27].

فمن استعبدتهم الشهوات حتى أعطوها أزمِّة أديانهم، وسلطوها على مروءاتهم وأباحوها أعراضهم يريدون من الجميع أن يكونوا أمثالهم، فالشهوات جنود الشيطان، ونور العقل عاصم من الزلل، ولا تزال الحروب مستعرة في القلب حتى يستقر فيه أحدهما: ظلمة الشهوة، أو أنوار العقل والحكمة([4]).

وقد قيل: “من ترك الشهوات عاش حرًّا”([5])؛ إذ إن الحرية في العبودية لله، وشر العبودية أن تكون عبدًا لشهوتك وهواك وملذاتك.

قال ابن أذينة الثقفي:

أطعتُ النفس في الشهوات حتى   **   أعادتني عسيفًا عبد عبد([6])

الموضع الثالث: في سورة مريم وذلك في قوله -تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ [مريم: 59].

فهؤلاء آثروا المعصية على الطاعة، وساروا في طريق الشهوات، وأعرضوا عن طريق الطاعات؛ فهم خلَف سوء.

فبقدر قربك من الشهوات يكون بُعدك عن الطاعات والقربات.

وطريق الشهوات هو طريق الهلاك والخسران والنيران، وطريق الطاعات هو طريق الفوز والفلاح والجنان.

لذلك قال -صلى الله عليه وآله وسلم: “حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ([7]).

“وحظ العارف من (اسم الله الجبار) أن يُقبل على النفس فيجبر نقائصها باستكمال الفضائل، ويحملها على ملازمة التقوى، والمواظبة على الطاعة، ويكسر فيها الهوى والشهوات بأنواع الرياضات، ويترفع عما سوى الحق، غير ملتفت إلى الخلق، فيتحلّى بحليّ السكينة والوقار، لا يزلزله تتالي الحوادث عليه، ولا يؤثر فيه تعاقب النوازل، بل يقوى على التأثير في الأنفس بالإرشاد والإصلاح”([8]).

أما حظه من اسم الله المتكبر فهو “أن يتكبر عن الركون إلى الشهوات، والسكون إلى الدنيا وزخارفها؛ فإن البهائم يساهمه فيها، بل عن كلّ ما يشغل سرّه عن الحق، ويستحقر كلّ شيء سوى الوصول إلى جناب القدس من مستلذات الدنيا والآخرة”([9]).

وقد قَسَم الله لأهل النار من لم يردعه عقله عن الولوغ في الشهوات، فقال -صلى الله عليه وآله وسلم: “أهل الجنّة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى، ومسلم عفيف متعفف ذو عيال.

وأهل النّار خمسة: الضعيف الذي لا زَبْر له الذين هم فيكم تبع لا يبغون أهلاً ولا مالاً، والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك، وذكر البخل والكذب، والشنظير الفحاش([10]).

وقوله -صلى الله عليه وآله وسلم: “(لا زبر له) -بفتح الزاء وسكون الباء: العقل، أي: لا عقل له يمنعه عن المعاصي، أو المعنى: لا تماسك له عند مجيء الشهوات فلا يرتدع عن فاحشة، ولا يتورّع عن حرام”([11]).

وقد قال سقراط: “إذا أقبلت الحِكَم خدمت الشهوات العقول، وإذا أدبرت خدمت العقول الشهوات”([12]).

والضياع كل الضياع إن خدمت العقول الشهوات، والفلاح كل الفلاح إن خدمت الشهوات العقول.


([1]) ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب، (2/158).

([2]) المفاتيح في حل المصابيح لمظهر الدين الزيداني، بتحقيقي، ح(1331).

([3]) ذم الهوى لابن الجوزي، ص(24).

([4]) انظر: رسائل الجاحظ، (1/92)، وإحياء علوم الدين، (2/283).

([5]) مجمع الأمثال للميداني، (2/327).

([6]) البخلاء للجاحظ بتحقيقي، ص(295).

([7]) أخرجه مسلم في “الجنة وصفة نعيمها وأهلها”، ح(2822) من طريق أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه.

([8]) المفاتيح في حل المصابيح لمظهر الدين الزيداني، بتحقيقي، ح(1331).

([9]) السابق.

([10]) أخرجه مسلم في “الجنة وصفة نعيمها وأهلها”، باب: “الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنّة وأهل النّار”، ح(2865)، من حديث عياض بن حمار – رضي الله عنه.

([11]) المفاتيح في حل المصابيح لمظهر الدين الزيداني، بتحقيقي، ح(3079).

([12]) الكشكول، (2/198).