أحمد تمام**

يعد الشيخ مصطفى عبد الرازق رائد الدرس الفلسفي في مصر المعاصرة، وأول أستاذ جامعي يقوم بتدريس الفلسفة الإسلامية من وجهة نظر إسلامية خالصة، حيث كانت تدرس من قبل في الجامعة المصرية من خلال الدرس الاستشراقي الذي ربط الفلسفة الإسلامية بالتراث اليوناني، وأنكر أي دور للعقل المسلم في تطوير الفكر الفلسفي عامة.

 

قدم الشيخ مصطفى عبد الرازق رؤية جديدة، تقوم على تلمس نشأة التفكير الإسلامي الفلسفي في كتابات المسلمين أنفسهم قبل أن يتصلوا بالفلسفة اليونانية ويدرسوها دراسة وافية، ودعا إلى تدريس علم الكلام والتصوف في أقسام الفلسفة، وإلى البحث عن أوجه الأصالة والابتكار في الفلسفة الإسلامية.

ورأى أن الاجتهاد بالرأي هو بداية النظر العقلي؛ ومن ثم فإن علم أصول الفقه ليس ضعيف الصلة بالفلسفة، ومباحث أصول الفقه تكاد تكون في جملتها من جنس المباحث التي يتناولها علم أصول العقائد الذي هو علم الكلام.

ومنذ أن أعلن مصطفى عبد الرازق عن دعوته التجديدية وإلى دراسة الفلسفة الإسلامية في مظانها الحقيقية، سارع تلاميذه إلى إحياء الفكر الفلسفي الإسلامي.

سليل أسرة عريقة

ومصطفى عبد الرازق صاحب هذه المدرسة، سليل أسرة عريقة، اشتهر كثير من أبنائها بخدمة القضية الوطنية المصرية، ولد سنة (1305هـ=1888م) في قرية “أبو جرج” التابعة لمركز بني مزار بمحافظة المنيا بصعيد مصر، ونشأ في كنف أبيه حسن عبد الرازق الذي كان عضوا بالمجالس شبه النيابية التي عرفتها مصر منذ عصر الخديوي إسماعيل.

قضى طفولته في قريته، حيث تعلم مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، ثم انتقل وهو في العاشرة إلى القاهرة، والتحق بالأزهر ليحصل العلوم الشرعية واللغوية، حيث درس الفقه الشافعي، وعلوم البلاغة والمنطق والأدب والعروض والنحو وغيرها.

وبدأ يتردد منذ سنة (1321هـ=1903م) على دروس الإمام محمد عبده في الرواق العباسي، وكان يقوم بتفسير القرآن الكريم، ويشرح كتابي أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني.

وقد تأثر التلميذ بشيخه وبأفكاره الإصلاحية، وتوثقت الصلة بينهما، وصار من خاصة تلاميذه وأقربهم إليه، على الرغم من قصر المدة الذي اتصل فيها بشيخه الكبير.

وقد ظل وفيا له، ولم يترك الحديث عن جهاده تأليفا ومحاضرة وتدريسا وكتابة في الصحف عن سيرة الإمام وآثاره، ووجهته في الإصلاح حين دعا إلى التوفيق بين العقل والنقل، وإلى تحرير العقل من التقليد؛ لأن النظر العقلي هو أساس الإيمان الصحيح.

كما اتصل بعدد من كبار علماء الأزهر، فدرس أصول الفقه على الشيخ أبي الفضل الجيزاوي، والمنطق على الشيخ حسنين مخلوف وأحمد أبو خطوة، ومن شيوخه أيضا: بسيوني عسل، ومحمد حسنين البولاقي، ومحمد الحلبي، وغيرهم.

الأزهري في باريس

وبعد حصوله على العالمية سنة (1326هـ=1908م) بدأ حياته العامة، وأبدى اهتماما بالمشاركة في الجمعيات العلمية والأدبية، كالجمعية الأزهرية التي أنشأها محمد عبده، واختير مصطفى عبد الرازق رئيسا لها. وكانت هذه الجمعية تجتمع لدراسة إصلاح التعليم في الأزهر.

ثم بدا له أن يسافر في سنة (1329هـ=1911م) إلى باريس، لاستكمال دراسته العليا، والوقوف على الثقافة الغربية ومعرفة ينابيعها، فالتحق بجامعة السربون لدراسة اللغة الفرنسية، وحضر دروس الفلسفة، ودرس الاجتماع على يد دوركايم، وتلقى دروسا في الأدب وتاريخه، ثم تحول إلى جامعة ليون ليدرس أصول الشريعة الإسلامية على أستاذه إدوارد لامبير، وفي أثناء إقامته هناك أعد أطروحته لنيل درجة الدكتوراة وكانت بعنوان “الإمام الشافعي أكبر مشرعي الإسلام . وبعد قيام الحرب العالمية الأولى عاد مع زملائه المصريين الذين كانوا يدرسون في أوربا سنة (1322هـ=1914م).

على ضفاف السياسة

وبعد عودته إلى القاهرة عين في سنة (1332هـ=1915م) موظفا في المجلس الأعلى للأزهر، ثم لم يلبث أن ترقى إلى وظيفة سكرتير المجلس، ثم انتقل إلى القضاء الشرعي سنة (1338هـ=1920م)؛ حيث عمل مفتشا بالمحاكم الشرعية، ثم اشترك مع أقطاب أسرته في تأسيس حزب الأحرار الدستوريين (1341هـ=1922م)، وإن لم يندمج هو في أنشطة الحزب السياسية اندماجا كبيرا بسبب طبيعته الهادئة وميله إلى الفكر والأدب، واكتفى بنشر مقالاته الأدبية والاجتماعية والدينية في صحيفة الحزب المعروفة باسم “السياسة”.

وحين صارت الجامعة الأهلية في مصر جامعة حكومية انتقل إليها في سنة (1346هـ=1927م) أستاذا مساعدا للفلسفة بكلية الآداب، وكان أول أستاذ مصري يلقي محاضرات في الفلسفة الإسلامية بالجامعة المصرية.

ثم اختير وزيرا للأوقاف عدة مرات (1356-1363هـ=1937-1944م)، فكان أول شيخ أزهري يتولى الوزارة في مصر، ومُنح لقب الباشاوية، ولكنه آثر عليه لقب شيخ، ولم يخلع عمامته طوال حياته.

وفي (22 من المحرم سنة 1365هـ= 27 من ديسمبر 1945م) عين شيخا للأزهر خلفا للشيخ المراغي، غير أن مشيخته لم تطل؛ حيث توفى في (24 من ربيع الأول 1366هـ= 15 من فبراير 1947م).

رائد الفكر الفلسفي الإسلامي الحديث

كان عمل الشيخ مصطفى عبد الرازق أستاذا للفلسفة الإسلامية نقطة تحول في تاريخ الدرس الفلسفي الإسلامي في مصر؛ حيث قدم تصورا خاصا في نشأة الفكر الفلسفي الإسلامي لم يُسبق إليه، وكانت الفلسفة الإسلامية تدرس على نحو يميل إلى النظر الغربي، حيث اتهمت بعدم الدقة والأصالة، والعجز عن الابتكار، وبأنها ليست إلا محاكاة للفلسفة اليونانية، وأنها اختصار سيئ قام به مترجمون غير جيدين للفكر اليوناني القديم.

وقد جحد غالبية الباحثين الأوربيين وبعض الكتاب المحدثين من المسلمين، الفكر الإسلامي كل جديد وإبداع، وأعلنوا أن الفلسفة الإسلامية هي فلسفة الكندي والفارابي وابن طفيل وابن باجة وابن رشد، وهي الطائفة التي عرفت باسم فلاسفة الإسلام. وحاول هؤلاء أن يبينوا التطابق التام بين ما يسمى لديهم فلسفة إسلامية والفلسفة اليونانية، وأن يردوا الأولى إلى الثانية، مع تفصيلات جزئية.

وهؤلاء حصروا الفكر الإسلامي في دائرة واحدة لم يتخطوها وهي الفلسفة الإسلامية على طريقة اليونان، وأغفلوا جوانب أخرى أصيلة لم يلتفتوا إليها سواء عن عمد أو غير عمد، وهذه الجوانب هي ما حاول الشيخ مصطفى عبد الرازق أن يكشف عنها، ويبرز ما فيها من جدة وابتكار وأصالة وإبداع، من خلال دراسة الفلسفة الإسلامية في مظانها الحقيقية، وفي كتابات المسلمين الأصيلة، ودحضه لمزاعم المستشرقين -وعلى رأسهم رينان- من أن العقل الإسلامي من الناحية البيولوجية غير قادر على إنتاج فلسفة يعتد بها؛ لأنه يميل إلى البساطة والوحدة ويرفض التعدد والتركيب، ودحض الشيخ عبد الرازق هذا، مؤكدا على المكانة الرفيعة التي يتبوأها العقل في الإسلام، من خلال دراسته للنظر العقلي في الفكر الإسلامي، مدعما بالنصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وتحليله لمكانة الرأي في الفكر الإسلامي.

المدرسة وتلاميذها

وقد تأثر بأفكار الشيخ مصطفى عبد الرازق نفرٌ كريم من تلاميذه، فاستكملوا ما بدأه، وقدموا دراسات جديدة تكشف عن جوانب أصيلة في الفكر الفلسفي، فكشف تلميذه محمود الخضيري عن ملامح الفلسفة الإسلامية الحقيقية في عصورها المختلفة.

وكتب محمد مصطفى حلمي عن الحياة الروحية في الإسلام، وانبثاقها في جوهرها عن الدين الحنيف وحده، ووضع دراسة ضافية عن فلسفة الحب الإلهي لدى عمر بن الفارض المعروف بسلطان العاشقين، وقد ملأت كتاباته في التصوف فجوة كبيرة في تاريخ الفلسفة الإسلامية.

وقدم محمد عبد الهادي أبو ريدة دراسة رائدة عن المعتزلة متمثلة في فكر إبراهيم بن سيار النظام، وأثبت أن لهذا الشيخ الكبير من شيوخ المعتزلة فلسفة أصيلة تجعله من الرعيل الأول من فلاسفة الدنيا.

وقدم علي سامي النشار كتابا حافلا بعنوان “مناهج البحث عند مفكري الإسلام ونقد المسلمين للمنطق الأرسططاليسي”، رد فيه على مؤرخي المنطق وعلم مناهج البحث الذين ينكرون أن يكون للمسلمين مكانة مبدعة في نطاق علم مناهج البحث، وأنهم أخذوا بالمنطق اليوناني واعتبروه منهجا لأبحاثهم.

وأثبت عدم قبول المفكرين المسلمين لمنطق أرسطو ومحاربتهم له، وأنهم وضعوا المنطق الاستقرائي كاملا، وهو المنهج التجريبي، وأن هناك وثائق عدة تثبت أن المسلمين استخدموا طرق التحقيق التجريبية في دراستهم للطب والعلوم الطبيعية والكيميائية والفلكية والنباتية، وأن هذا المنهج قد وصل إلى أوربا واستفاد منه علماؤها ونسبوه إلى أنفسهم، وكان سببا في إقامتهم حضارة إنسانية وعلم حقيقي.

وللنشار دراسة وافية في ثلاثة أجزاء بعنوان “نشأة التفكير الفلسفي في الإسلام” تتبع فيها نشأة ذلك الفكر وأسس بنائه.

وإلى جانب هؤلاء أسهم عدد كبير آخر من تلامذة مصطفى عبد الرازق في مجالات الفلسفة، يأتي في مقدمتهم: عثمان أمين، وتوفيق الطويل، وأحمد فؤاد الأهواني.

ولم تكن تلك المدرسة وحدها تقوم بهذا التفسير الحضاري للفلسفة الإسلامية، بل تكونت مدرسة أخرى في دار العلوم تعنى بالمدرسة العقلية الإسلامية على يد العالم الكبير محمود قاسم الذي نشر أبحاثا فياضة عن ابن رشد بالعربية والفرنسية، ورأى أنه يعبر عن روح الفلسفة الإسلامية وأصالتها، وأنه لم يتابع أرسطو متابعة الأعمى، وبيّن أثر ابن رشد في فيلسوف المسيحية توماس الإكويني، وكذلك قامت في الأزهر مدرسة حمل لواءها الدكتور عبد الحليم محمود، ومحمد عبد الرحمن بيصار.

وقد تابع هذا الجيل من الرواد جيلٌ آخر يقف في طليعته عمار الطالبي بأبحاثه عن الخوارج وعن ابن العربي وعبد الحميد بن باديس، ومحمد رشاد سالم ببحوثه عن ابن تيمية، وأحمد صبحي بدراساته عن علم الكلام وعلم الأخلاق عند المسلمين، وعبد القادر محمود بمباحثه عن الإمامية وتاريخ التصوف، وفوقية حسين بكتاباتها عن الجويني، وحسن الشافعي ببحوثه عن الآمدي.

مؤلفات مصطفى عبد الرازق

وقد ترك الشيخ عددا من المؤلفات، فكتب دراسة صغيرة أدبية عن البهاء زهير الشاعر المعروف، ونشرت سنة (1349هـ=1930م)، وأصدر كتابه “تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية” سنة (1363هـ=1944م) وهو أشهر كتبه وأهمها. وله أيضا:

كتاب “فيلسوف العرب والمعلم الثاني” تناول فيه فلسفة كل من الكندي والفارابي، وصدر سنة (1364هـ=1945م).

وكتاب “الإمام الشافعي”، وصدر ضمن سلسلة أعلام الإسلام سنة (1364هـ=1945م).

وكتاب “الشيخ محمد عبده“، ونشره في سنة (1365هـ=1946م)، وهو يجمع مقالاته ودراساته عن أستاذه، وركز فيه على الجانب الإصلاحي والفلسفي من حياة الإمام، كما قام بترجمة “رسالة التوحيد” لمحمد عبده إلى الفرنسية بالاشتراك مع برنارد ميشيل.

وقد جمع أخوه الشيخ علي عبد الرازق مجموعة من مقالاته التي نشرها في الجرائد والمجلات في كتاب تحت عنوان “من آثار مصطفى عبد الرازق” مع مقدمة لطه حسين، وصدر في سنة (1377هـ=1957م).

وقد حظي الشيخ مصطفى عبد الرازق بتقدير الهيئات والمجامع العلمية، فاختير عضوا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، كما تناول فكره عدد من الدراسات والأطروحات العلمية.


من مصادر الدراسة:

علي عبد الرازق: من آثار مصطفى عبد الرازق- دار المعارف- القاهرة- 1957م.

علي عبد الفتاح أحمد: المفكر الإسلامي مصطفى عبد الرازق- دار المعارف-القاهرة- 1985م.

علي عبد العظيم: مشيخة الأزهر- الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية- القاهرة- 1398هـ=1978م

عثمان أمين: رائد الفكر المصري محمد عبده- مكتبة النهضة المصرية- القاهرة- 1955م.

علي سامي النشار: نشأة الفكر الفلسفي الإسلامي- دار المعارف- القاهرة- 1981م.