إشكالية المصطلح وتنازع دلالاته قديمة جدا، بدأت منذ وعى الإنسان قيمة اللغة ومكانتها في الفكر، ذلك أنه كما يقال: “في البدء كانت الكلمة”، وفي سرد القرآن الكريم لقصص الأنبياء مصداق ذلك، فقوم نوح يرمونه بالسفه ويصمونه بالضلال، ويلجأ هو إلى نفي هذه الصفة عنه، لأن رميه بها يؤثر على سمعته ويجعل مشروعه الإصلاحي منفرا، وإذا كان القرآن لم يصرح بأنه قوم نوح كانوا يعتبرون أنفسهم مهتدين فإن السياق دال على ذلك: (قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ “، وكذلك ما أتى الذين من بعده من رسول إلا واعتمدوا استيراجية إرباك الوعي الجمعي بتمييع المصطلحات.

وينبهنا القرآن إلى أن هذه المصطلحات التي يشوش بها على مشاريع الإصلاح لها مختبرات سَكٍّ واختبار تتولى الإشراف عليها النخبة العليا التي تتولى إدارة شؤون البلاد وتتحكم في رقاب العباد، وهم الذي يسميهم القرآن بـ”الملأ”، وما أكثر أن نجد في القرآن “قَالَ المَلَاُ”، ذلك بأن المصطلحات خلفها مفاهيم هي التي تؤثر في الفكر والرأي والموقف، ولا يمكن أن تترك سائبة.

وهناك مقطع قرآني في سورة غافر نقل لنا حيثيات معركة مصطلحية كبيرة دارت بين الدعوة الإصلاحية بقيادة الرجل المؤمن في البلاط الفرعوني وبين الملإ من قوم فرعون، فقد كان الرجل المؤمن وفرعون يتنازعان المصطلح نفسه لمشروعين مختلفين، ذلك المصطلح هو: “سبيل الرشاد”، الذي يستخدمه فرعون باعتباره معبرا عن مشروعه القائم، ويستخدمه الرجل المؤمن باعتباره معبرا عن مشروعه المنشود، يقول فرعون: “مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ”، ويقول الذي آمن: “يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ”.

وكلا الرجلين يحاول أن يقنع الجماهير الغافلة بمشروعه من خلال هذا الشعار البراق: (سبيل الرشاد)، ويرتبك وعي أغلب العوام الذين لا يدققون فيما وراء الكلمات بل يتلقفون المصطلحات البراعة مدفوعين بجمال جرسها ونبل ما تثيره في العقل والوجدان، وهذه السمة المقلدة هي التي شجعت فرعون على رفع هذا الشعار في وجهها، رغم أن واقعه يدل على عكس ذلكـ، فقد كانت تلك الفترة من أشد فترات حكمه بطشا وتنكيلا وتعذيبا لبني إسرائيل، فقد كانت فترة تنفيذ مشروع الإبادة المتدرجة “يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم.

ما المخرج إذن من هذا الالتباس؟

إن فئة قليلة من الناس هي القادرة على فك هذا الالتباس المصطلحي المتعمد، بعضها أوتي عقلا ونباهة مكنته من وضع مقاييس علمية منهجية لتحديد الصادق من الكاذب، “فلعرفتهم بسيماهم”، وبعضها أوتي” فرقانا” أي إشراقا روحيا وصفاء عرفانيا يجعله يميز الجاد من الهازل، “ولتعرفنهم في لحن القول”.

لكن الغالبية لا تملك هذه الملكة المائزة، وليست قادرة على فك المشتبهات التي “لا يعلمهن كثير من الناس”، وهي بحاجة إلى من يشرح لها ويرجح عنها، وتلك مسؤولية أهل العلم والفهم، وهم بتعبيرنا اليوم (المثقفون) الذين ينبغي أن يتحملوا مسؤولياتهم تجاه المجتمع والأمة، لأنهم مصابيحها في الظلام وهداتها في صحراء البحث عن الخلاص، فإذا توارى المثقفون كسلا أو خوفا فقد سمحوا لدعايات فرعون بالانتشار والترسخ.

إن هناك أمورا قد تساعد على معرفة أي المدعيين هو الصادق وأيهما هو الكاذب، منها قرائن الأحوال والظروف المحيطة بصاحب القول.

لقد كانت الظروف المحيطة بفرعون؛ تاريخه مع الفساد والاستبداد وحاله القائمة في الظلم والقهر والتعالي على الله وعلى الناس كافية لتفريغ مقولته من أي دلالة وأي معنى صالح صحيح.

كما كانت الظروف المحيطة بالرجل الذي آمن كافية للحكم بصدق مشروعه، فقد كان من ملإ فرعون بل من الملإ الأعلى لديه بدليل حضوره للاجتماع الخاص الذي قرر فيه اغتيال موسى، وأبلغه بذلك قبل التنفيذ “قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ”، لكنه مع هذه المكانة والمنصب لدى فرعون كان نظيف اليد من ظلمه وبطشه، فلم يؤثر عنه تصدر لعمل سيء، ولا الإشراف على ظلم مباشر.

لكن هذا البيان الذي يبتغي التمييز بين الصادق والكاذب لا يمكن أن يؤتي أكله إلا إذا اعتمد على احتراف خطابي آخر، يبدأ بتأسيس مختبر مقابل لسَكِّ المصطلحات بطريقة احترافية تضمن لها الذيوع والتداول بين العامة المعبَّأة بمصطلحات فرعون وملئِه، وهي إحدى الصناعات الثقيلة المهمة لدعوات الإصلاح.

فالتاريخ النظيف والموقف المشرف في اللحظة الحاسمة في المواجهة بين الحق والباطل يمنح بعض المصداقية ولكنه لا يكفي لمواجهة المصطلحات المربكة التي شكلت وعي الناس ومواقفهم، أو على الأقل سيكون الوعي الذي يجيء به بطيئا جدا، لأن وهج الصدق الأصيل لا يمكن أن يخفته بريق الباطل الزائف.