يناقش موضوع نقد المتن عند علماء الحديث في حلقته الثانية مظاهر ذلك النقد في مناهج المحدثين، إشادة بجهود المحدثين الأفذاذ في رواية الحديث النبوي وصيانته، وردا على الشبهات والضلالات التي يثيرها بعض المشككين في السنة النبوية وعلومها، حيث كان من جملة دعاويهم: أن علماء الحديث اقتصروا في فحصهم الحديث على نقد سند الرواية دون متنها، فأصحاب الحديث – من وجهة نظر هؤلاء المشككين – يصححون المرويات اعتمادا على صحة الأسانيد فقط، ولم يكلفوا أنفسهم في نقد المتون وفحصها  وتمييزها من الداخل. ووصف بعض هؤلاء هذه الظاهرة بأنها إحدى مشاكل العقل العربي، وهي “وقوف هذا العقل العربي عند الأشكال وعدم التعمق في فهم الموضوع[1].

والتركيز على بيان منهاج النقد عند المحدثين وبخاصة ما يتعلق منها بأحوال المتن وهو النص النبوي، يحقق بعض أغراض علمية مهمة منها:

1-  الدفاع عن سنة النبي بإثبات حجية ما ثبت صحتها وفق أصول وقواعد التحديث المقررة عند علماء السنة، وتبرئتها من أقوال المغرضين الذين يسعون إلى طعن الحديث بدعوى النقد على منهاج عصري.

2- بيان خصائص منهج المحدثين في نقد الرواية سندا ومتنا والتي كانت تتجسد في الأمانة العلمية والالتزام بأصول النقد.

3- رد مزاعم آراء المستشرقين والمتأثرين بهم أن نقد الحديث ومعرفة درجة صحته كانت تعتمد فقط على نقد رجال السند ومعرفة سيرتهم، وكان التصحيح والتضعيف عندهم يدور مع السند، فإذا صح السند صح الحديث ولا عبرة بالمتن. وإن جرى نقد للمتن فهو قليل إذا ما قيس بنقد المتن[2].

مظاهر نقد المتن 

إن الأدلة العلمية التي تبرهن على اشتمال نقد المرويات عند أهل الحديث على السند والمتن كثيرة، وهي بالتالي تدحض مزاعم المسشرقين وأعوانهم بأن أهل الحديث كانوا يكتفون بنقد رواة الحديث في السند، ويقبلون الحديث أو يردونه على هذا الأساس، ويمكن اختصارهذه الأدلة فيما يأتي:

1- أن نقد المتن أمر مقرر في قواعد التحديث

بدأ قبل الجرح والتعديل وظهور الإسناد، ويكشف هذا النقد في عصر الصحابة، حيث كانت الجهود تصرف إلى نقد المتون قبل رجال الإسناد، ولم يكن يتوجه النقد إلى الإسناد باعتبار الصحابة كلهم عدول لا يجترؤون الكذب على رسول الله .

اشتهر عمر بن الخطاب وعائشة رضي الله عنهم  بالنقد في مقدمة هذه الطبقة، وتمثل حركة النقد في هذه المرحلة في ثلاث صور:

الأولى – النقد بسبب فوات الفهم الصحيح لمعنى الحديث، ومثال ذلك:  ما جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرَ قَال:  صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ، قَالَ: ” أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ “.

قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَوَهَلَ النَّاسُ فِي مَقَالَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ، إِلَى مَا يُحَدِّثُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ، فَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ ” يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ يَنْخَرِمُ ذَلِكَ الْقَرْنُ).

الثانية – النقد بسبب عدم الضبط، ومثاله: حديث عمرة بنت عبد الرحمن؛ أنها سمعت عائشة أم المؤمنين تقول وذكر لها أن عبد الله بن عمر يقول: إن الميت ليعذب ببكاء الحي.

فقالت عائشة: يغفر الله لأبي عبد الرحمن. أما إنه لم يكذب. ولكنه نسي، أو أخطأ. إنما مر رسول الله بيهودية يبكي عليها أهلها. فقال: «إنكم لتبكون عليها، وإنها لتعذب في قبرها».

الثالثة – النقد من جهة أسلوب عرض الحديث، فإنه من المعلوم أن رسول الله كان لا يسرد الحديث، بل يحدث بالحديث فيعيده ثلاثا ليضبطه من كان يجلس إليه ويفهمه.

وكانت عائشة تنتقد أبا هريرة رضي الله عنهم جميعا أسلوبه في الرواية والعرض، قال عروة بن الزبير: (أن عائشة قالت: «ألا يعجبك أبو فلان، جاء فجلس إلى جانب حجرتي، يحدث عن رسول الله ، يسمعني ذلك وكنت أسبح فقام قبل أن أقضي سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه إن رسول الله لم يكن يسرد الحديث كسردكم»)

2- نشأة المذاهب الفقهية والاختلافات بين المذاهب مبني في معظمه على نقد المتن، فأصحاب المذاهب تختلف آراؤهم وتتباين أفكارهم، وهذا الخلاف يسنأ غالبا من فهم نص الحديث وليس من جهة ثبوت النص.

3- نشأ علم كامل هو علم اختلاف الحديث  أو مختلف الحديث أو مشكل الحديث، وموضوع هذا العلم البحث في المتون، ومن ذلك كتاب “اختلاف الحديث” للشافعي، وكتاب “شرح مشكل الآثار” للطحاوي.

4 – عني علم العلل في المقام الأول بمتن الحديث عناية كبيرة، فكان موضوع هذا العلم هو الحديث الذي ظاهر إسناده الصحة، لكن ينتقد من قبل المتن، لذلك يحتاج هذا العلم إلى البصير من أهل الصناعة. قال ابن كثير: “المعلل من الحيث فن خفي على كثير من علماء الحديث، حتى قال بعض حفاظهم: معرفتنا بهذا كهانة عند الجاهل.” [الباعث الحثيث: 63].

5-أن الأحاديث الموضوعة يستدل على وضعها من المتن قبل الاستدلال بالسند لأن أكثر الكذابين كانوا يسرقون الأسانيد، فيركبون الأسانيد الجيدة على المتن الموضوع، أو يلقنون الثقة في مراحل اختلاطه فيروي الموضوعات بأسانيده الصحيحة.

ولكن المتخصصون أهل المعرفة بهذا العلم يميزون الحديث الموضوع المكذوب بسهولة من خلال الاعتماد على الملكة القوية والاطلاع التام على أحاديث رسول الله ، أو الرجوع إلى القرائن العلمية التي بها يعرف الحديث الموضوع.


[1]  الفكر المنهجي عند المحدثين (106).

[2]  ومن أبرز هؤلاء المستشرقين الذين اشتهرت منهم هذه المقولة: جولد زيهر في كتابه “العقيدة والشريعة”، والسير وليم موير، وهو من المنصرين المتعصبين في كتابه “حياة محمد”؛ والإيطالي كايتاني في كتابه “الحوليات الإسلامية”، ونسب هذا الشان إلى تلاميذهم من أبناء المسلمين منهم: محمود أبو رية، وأحمد زكي أبو شادي.. انظر: خلف، نجم عبد الرحمن، نقد المتن بين صناعة المحدثين ومطاعن المستشرقين (12).