الفقه والفهم – في اللغة – اسمان بمعنى واحد، وقد كانت الشريعة تُطلَق على الدين كله الذي تَحَولت المعارف المرتبطة به إلى صنائع وعلوم، فصار الفقه – في اصطلاح أهله – هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية، وقد نشأت مذاهب فقهية عدة لكل مذهب مناهجُه وأئمته ونصوصه، يجمعها نظامٌ عام في الاستدلال والتفكير والعمل صار فيما بعد يُسمى تقليدًا؛ لأنه مع تَشَكل المذاهب وقواعدها انقسم الناس إلى قسمين: مجتهد ومقلّد.

وقد انتهى الاجتهاد المطلق/المستقل بتبلور المذاهب الفقهية المعروفة (الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وغيرها)، وصار المجتهدون اللاحقون يجتهدون في إطار المذهب المحدد وقواعده على تفاوت درجاتهم وتأهيلهم، ووُضعت لذلك ألقاب فنية خاصة كمجتهد المذهب ومجتهد المسألة وغير ذلك بناءً على تَجَزُّؤ الاجتهاد وغياب المجتهد الشامل. في حين شمل وصف المقلد عامة المسلمين وإن تفاوتوا في درجات تقليدهم، وعلى هذا سار التاريخ الإسلامي في شِقّيه: الاجتماعي (التدين الفردي) والقانوني (القضاء) حتى مشارف الأزمنة الحديثة التي بدأت في القرن الثامن عشر مع الإصلاحات العثمانية والاحتكاك بالحداثة الأوروبية.

وقد فرّق الفقهاء بين أحكام الله المنصوصة القطعية الدلالة التي أجمع العلماء على أنها أحكام الله وأنها لا تتغير (سماها المعاصرون “الشريعة”)، وبين غيرها مما يخضع للجهات الأربع: الزمان والمكان والأحوال والأشخاص (سماها المعاصرون “الفقه” وهو مشتمل على “الشريعة” أيضًا).

ولكن الأحكام الشرعية – وفق التقليد الفقهي – ثلاثة أقسام:

الأول: أن تكون منصوصة بأدلة القرآن والسنة، سواء كانت دلالتها قطعية أم ظاهرة.

والثاني: أن تكون مستنبطة بفعل المجتهدين عن طريق إدخالها في نصوص القرآن والسنة، وهذا تختلف فيه أنظار المجتهدين ويسميه الفقهاء “تحقيق المناط”، وقد يُجمع الفقهاء في عصر على حكم مبني على واقعٍ معين ثم يُجمع غيرهم لاحقًا على حكم آخر؛ لتَغَير الواقع الذي بُني عليه الحكم الأول، فيقولون: إن تحقيق المناط اختلف، وإنه اختلافُ عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان، أي أنه صيغةٌ من صيغ ثبات المبدأ وتغير تطبيقاته وملابساته بتغير الزمان والمكان والأشخاص والأحوال.

والثالث: الإلحاق على ما نصّ عليه المجتهدون في مذاهبهم، ويسمى التخريج على المذهب وهو ما يقوم به مجتهدو المذاهب، ثم صار يقوم به المفتون في العصر الحديث في شأن النوازل التي لم يَسبق لها مثيل أو شبيه في تراث المذاهب الفقهية ونصوصها.
والفقه؛ بما هو علمٌ بالأحكام الشرعية: اسمٌ جامعٌ لطريقي الدنيا والآخرة، و”معرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة واستيلاء الخوف على القلب” كما يقول الإمام الغزالي (505هـ) وهو المعنى الذي نجده عند الحارث المحاسبي (243هـ)، وذلك لتحقيق الاستقامة في الدنيا لتحصيل الفلاح في الآخرة، وإنما أُديرت الأحكام على الظواهر؛ لأنها دليلٌ على أعمال الباطن، ومن ثم كان العمل معبّرًا عن الاعتقاد؛ لأن الباطن خفيٌّ لا يمكن الاطلاع والحكم عليه، فأُقيم الظاهرُ مكان الباطن ودالاً عليه في مسائل الدنيا التي يقتضيها انتظام الاجتماع الإنساني، خصوصًا في شقها القانوني والحقوقي.

والأخلاقُ لا تنفصل عن الفقه المعتَبَر، فلا يَعرى حكمٌ عن خُلُق، ولذلك قال الشاطبيُّ: “والشريعة كلها إنما هي تَخَلق بمكارم الأخلاق”، وهي “أول ما خوطبوا به، وأكثر ما تجد ذلك في السور المكية”، فـ “جاءت الشريعة لتُتَمم مكارم الأخلاق، فدل على أن المشروعات في هذا الباب جاءت متممة لجريان التفاصيل في العادات على أصولها المعهودات”، ومن ههنا أقرت الشريعة جملة من الأحكام التي جرت في الجاهلية مما كان محمودًا، وما كان من محاسن العوائد ومكارم الأخلاق التي تَقبلها العقول وهي كثيرة، “وإنما كان عندهم من التعبدات الصحيحة في الإسلام أمورٌ نادرة مأخوذة عن ملة إبراهيم عليه السلام.

فالجاهلية لم تكن شرًّا مطلقًا وقد جرَت بعض الأحكام على محمود عُرفها، وتممت الشريعة ما نقَص من أخلاق الجاهلية، وشرعت ما لم يكن مألوفًا، وبدّلت ما كان منكرًا، أي أن الجاهلية كانت حالة مركبة لا – كما تصورها جماعات العنف والتكفير وكتابات سيد قطب وأخيه محمد- شرًّا مطلقًا، فهؤلاء اختزلوا الجاهلية في الجانب العقديّ، وحملوا تشريع القوانين على حالة الشرك الجاهلية، واختزلوا الفقه كله في الجهاد القتالي ومسائل الحكم، وحولوه إلى قانون بالمعنى الحديث الذي عرفته الدولة الحديثة.

في حين أن الفقه أوسع من ذلك بكثير، ويتداخل فيه القانوني بالأخلاقي، والظاهر بالباطن، والفرديّ بالجمعيّ، والنصي بالمستنبط، وتتعدد مستوياته من الإلزام إلى الإباحة وما سواهما من الأحكام الخمسة، فمن أحكامه ما يأخذ صفة الإلزام بحسب الخلُق الذي تحته كتحريم الخمر لمقصد حفظ العقل، ومنها ما يأخذ صفة التحسينات؛ لأنه راجعٌ إلى “مكارم الأخلاق“، وهي: “الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتَجَنب المدنّسات التي تَأْنَفها العقول الراجحات” كالمندوبات والمكروهات المتصلة بالمطعومات والمشروبات واللباس وغيرها.

ويشتمل الفقه الإسلامي على ثلاثة مستويات: الديانة (التدين الفردي)، والقضاء (الإلزام في الخصومات)، والسياسة (المخولة إلى الإمام /الخليفة) قبل نشوء الدولة الحديثة ونظامها السياسي، ولذلك فإن المشايخ الذين يمنحون رئيس الدولة حقوق “الإمام/الخليفة” لا يَعون التراث الفقهي ولا الواقع ويرتكبون مغالطات عديدة بحثتها في مقالات ودراسات مستقلة.

وقد ناقش الفقهاء طبيعة الأحكام الثابتة بالاجتهاد وهل يقال فيها: حكم الله أو لا؟ والذي قرره الإمام ابن القيم أنه “لا يَسوغ إطلاق حكم الله على ما لا يَعلم العبد أن الله حَكَم به يقينًا من مسائل الاجتهاد”، ولذلك اصطلح المتأخرون على التفريق بين الشريعة والفقه كما سبق، فصار الفقه مشتملاً على الوحي والاجتهاد الصادر من أهله في محله (الاختصاص)، ولكن بعض المفتين يتساهلون في إطلاق حكم الله، ويتداخل هوى النفس (سواءٌ كان متشددًا أم متساهلاً) مع حكم الله، والمعيار الحاكم في هذا هو مستند الحكم ودرجة قوته ووضوحه وكونه منصوصًا أو داخلاً في المنصوص أم لا.