نطرح هنا عدة كليات أساسية في منهجية تدبر القرآن للراشدين، الذين يستطيعون التعامل بوعي أكبر مع القرآن الكريم، وإدراك مقاصده ومعانية الشاكلة، وسوف نطرح هذه الكليات مع نماذج تطبيقية مختصرة وعلى القارئ التمرن على القراءة من خلال هذه النماذج والتوسع فيها.

الكليات الأربع لتدبر القرآن

مع نماذج وتطبيقات

 

الكلية الأولى:  تحديد المقصد العام للسورة القرآنية، والمقاصد التابعة

تقوم هذه الكلية على مبدئية النظر إلى السورة باعتبارها وحدة واحدة من النظم والمعاني والمقاصد، فالسورة الواحدة مهما تعددت فيها المواقف والأحداث، وتنوع فيها الخطاب بين عام وخاص، وتنوع فيها المخاطب العقل أم الوجدان، المسلم أم غير المسلم..فإنها كلها يحيطها مقصد أساس، ومقاصد فرعية توضحه وتدعم وجوده في ذهن المتدبر، فكل هذه التنوعات والتعددات  إنما هي متآلفة وليست مختلفة فضلا عن أن تكون متناقضة فوحدة المصدر للقرآن {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا }[النساء:82]،  ووحدة رسالته [وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [الزخرف:44] يقتضيان هذا التآلف العام بين سور القرآن عمومًا والانسجام الخاص  – بين السورة الواحدة خصوصًا – أيضًا-، ووحدة الغاية والمقصد.

يذكر القاضي أبوبكر ابن العربي(ت 1148م) في مبدئية وحدة السورة قوله ” …ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة، متسقة المعاني، منتظمة المباني”. ( ابن العربي، سراج المريدين).

ويطرح الإمام البقاعي الشافعي (ت885 هـ) في كتابه الموسوعي (مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور) معتمدًا في تحديد مقصد السورة من اسمها أو أسمائها -التي ذكرت في الروايات المختلفة- ففي سورة الفاتحة على سبيل المثال، يذكر: أن مقصود هذه السورة هو مراقبة العباد لربهم..فإن التزام اسمه تعالى في كل حركة وسكون داع إلى ذلك، وعلى ذلك دلت أسماؤه.. وأن أسماء هذه السورة  – مع الفاتحة – أم القرآن ، وأم الكتاب، والسبع المثاني، والأساس، والكنز والشافية، والكافية، والواقية، والشفاء، والرقية، والحمد، والشكر، والصلاة والدعاء، والصلاة.. فمدار هذه الأسماء – كما يقول البقاعي- على أمر خفي، كاف لكل مراد، وذلك هو المراقبة، وكل شيء لا يفتتح بها لا يعتد به… وهي – أي سورة الفاتحة– جامعة لجميع معاني القرآن، ولا يلزم ذلك اتحادها مع مقصوده بالذات، وإن توافقا في المآل، فإنه فرق بين الشيء وبين ما جمع ذلك الشيء. ( مصاعد النظر، ص 210).

وحديثًا أطلق عبدالله دراز ( ت 1958) ما عرف بنظام “عقد المعاني” على منهجية وحدة السورة أو مقاصد السورة ، ويذكر في ذلك ” أن القرآن في قطعة قطعة منه تلتقي عنده نهايات الفضيلة كلها على تباعد ما بين أطرافها (دراز، النبأ العظيم، ص143)، ويضرب دراز مثالًا لنظام عقد المعاني من خلال تعرضه لسورة البقرة، ويري أن هذه السورة – البقرة – على طولها تتألف وحدتها من: المقدمة، وأربعة مقاصد،، وخاتمة على الترتيب  التالي:

(المقدمة) في التعريف بشأن القرآن، وبيان أن ما فيه من الهداية قد بلغ حدًا من الوضوح لا يتردد فيه ذو قلب سليم. وإنما يعرض عنه من لا قلب له، أو كان في قلبه مرض.

(المقصد الأول) دعوة الناس كافة إلى اعتناق الإسلام.

( المقصد الثاني) في دعوة أهل الكتاب خاصة دعوة خاصة إلى ترك باطلهم والدخول في هذا الدين الحق.

( المقصد الثالث) في عرض شرائع هذا الدين تفصيلًا.

( المقصد الرابع) ذكر الوازع والنازع الديني الذي يبعث على ملازمة تلك الشرائع وينهى عن مخالفتها.

( الخاتمة) في التعريف بالذين استجابوا لهذه الدعوة الشاملة لتلك المقاصد، وبيان ما يرجى لهم في آجلهم وعاجلهم.

 – أما طه العلواني (ت 2016) فيقدم رؤية متقاربة – أيضًا- حول مقصد السورة، وأطلق عليه ” عمود السورة” وهو يعتمد كما أشرنا سابقًا على النظرة الكلية للسورة القرآنية ” فالسورة من القرآن لها وحدتها البنائية الخاصة بها، ضمن الوحدة الكلية للقرآن المجيد، وإدراك الوحدة البنائية للسورة، والكشف عن معانيها، وإبراز وحدتها، يجعلنا نبحث عن ” عمودها الأساس” فلكل سورة عمود، لأن السورة بمثابة بيت كبير، له دعامة أساسية، أو عمود يقوم عليه البيت، تحيط بهذه الدعامة الأساسية دعامات أو أوتاد فرعية أخرى بالنسبة للعمود الأساس، لتتضافر معه في تشكيل بنية السورة.” ( العلواني، أفلا يتدبرون القرآن، ص137).

نصل من خلال ما تقدم حول هذه الكلية الأولى -الوقوف على ” مقاصد السورة “- إلى خلاصة معرفية مفادها أن تحديد مقاصد السورة إنما يعتمد على النظرة الكلية والشاملة للقرآن الكريم، وأنه جملة واحدة، ومن مصدر واحد، ورسالة واحدة، وإن تنوعت طرق خطابه وبيانه وموضوعاته، وأن إحساس المسلم القارئ للقرآن بهذه المنهجية يجب أن ينشغل بهذه الوَحدة في قراءته مهما كانت المعاناة العقلية في ذلك، إلا أنها تحقق في النهاية مقصد القراءة وهو التدبر.

الكلية الثانية : استخراج المفاهيم الرئيسة

بدأ القرآن في تربيته للجماعة المسلمة التي انطلقت من فورها من حال الظلمات إلى النور، فراح يحدد لها مفاهيمها ويوضحها ويصحح أوجه اللبس والاختلاط بين بعضها البعض، وذلك لتحديد الهوية والتأكيد على الأصالة، لذلك جاءت لفظة “قولوا ” في هذا الإطار من أجل: بناء مفاهيم الجماعة المسلمة ، وتصحيح الاعتقادات المشوهة.

ومن نماذج المفاهيم التي اعتنى القرآن بتصحيحها وبناءها من جديد عند الجماعة المسلمة ما يلي:

1- مفهوما “الإسلام” و”الإيمان”: ميز القرآن بين مفهومي الإسلام والإيمان على أساس العام والخاص، والكلي والجزئي بينهما، {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]،  فالإسلام له شروط ظاهرة يمكن أن نراها جميعًا، ولكن الإيمان خاصية بالقلب لا يمكن أن يراه إلا الله تعالى، فالإسلام بنطق الشهادتين يجعل الإنسان ينطوي تحت مسمى ( مسلم) أما الإيمان فهو عمل قلبي لا يطلع عليه ولا يدرك حقيقته إلا الله..أو لأن الإسلام قول فقط، بينما الإيمان قول وعمل، والعمل شرطه النية والنية محلها القلب الخاص بعلم الله.. فالذين لا يصدقون بأعمالهم أقوالهم لا يندرجون تحت مظلة ( المؤمنين) وإن بقوا تحت مظلة ( الإسلام). أشارت بعض التفاسير إلى شرط العلم بالشريعة حتى يندرج المسلم تحت مظلة الإيمان، وفيه شيء من المنطق، إذ كيف يعمل المسلم بالتكليفات دون علم؟ وهل يعبد الله على جهل؟ وكيف يمكن أن يتم معرفة الأوامر والنواهي؟ والأحكام والحدود؟ والتشريعات والتكليفات دون علم؟

وعليه فيمكن للمتدبر أن يتتبع أحوال اللفظتين: الإسلام، والإيمان ليكون تصورًا عامًا وخاصًا لهما في ضوء التتبع والاستقراء لأحوالهما في القرآن، مدركًا بملكة التفكير الناقد والمقارن، جوانب الاشتراك، والتشابه، والاختلاف والتباين، كما يمكنه أن يدرك خصائص كلا المفهومين وطبيعة العلاقة بينهما في هذا الإطار القرآني.

2- مفهوما “راعنا”و”انظرناومدخل جديد للتعامل مع بناء المفهوم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة:104]. وهنا مدخل مهم لإدراك طبيعة المفهوم الذي يفهم من الكلمة، فإن المفهوم كلمة، ولكنه ليست كلمة فقط، بل أيضًا بما تحمله الثقافة التي تشبع بها هذا المفهوم، وما حقيقته في تلك الثقافة ومقصوده، فرغم أن الكلمتين “راعنا” و”انظرنا” بمعنى قريب وواحد: [ رَاعِنَا: فِعْلُ أَمْرٍ. أمر من المراعاة، أي راعنا سمعك أي اسمع لنا ما نريد أن نسألك عنه أو انظر في مصالحنا وتدبير أمورنا..انْظُرْنا: انظر إلينا، أو انتظرنا وتأنّ علينا وأمهلنا]..ولكن اليهود ( البعد الثقافي للكلمة) كانت تستخدم راعنا في سب وتقبيح النبي – صلى الله عليه وسلم. فجاء أمر الله للمؤمنين أن لا يقولوا هذه الكلمة ويستبدلونها بكلمة أخرى لا تحمل هذا التشبع الثقافي بالسب والتوبيخ والذي كان يفعله اليهود معه – صلى الله عليه وسلم –.

ومن الدراسات المهمة في هذا الشأن دراسة السيد عمر ( خارطة المفاهيم القرآنية)[1] والذي عد فيها ما يقرب من (25) مفهومًا قرآنيًا استخرجها من القرآن الكريم منها: مفهوم العبادة، الحرم، السير، الجهاد العفة، الصبر ، سنة الله ..وغيرهم من المفاهيم القرآنية. وبمكن للقارئ الرجوع إليها من أجل التمرين والتدريب على طريقة استخراج المفاهيم من القرآن مباشرة.

كما قدم السيد عمر – أيضًا- دراسة مفصلة حول كيفية استخراج المفاهيم وبناءها من القرآن الكريم بالتطبيق على مفهوم التزكية[2] وقد طرح هذا المفهوم من خلال البحث في المحاور التالية: مصدر التزكية، ميزان التزكية، المكلف بعملية التزكية، مضمون التزكية، عاقبة التزكية.

 

 

 


[1] السيد عمر: خارطة المفاهيم القرآنية, دمشق , دار الفكر, 2009.

[2] السيد عمر: بناء المفاهيم ودورها في نهضة الأمة, الرياض, دار الهدى, 2014.